وقفة مع كتابه : لماذا أنا ملحد؟
ويورد كاتبنا المتعجل الذى يفتقر للنضج ما قاله اثنان من كبار علماء الرياضيات والفَلَك فى الغرب فى هذا الصدد إيراد المعترض على ما يقولان: "يقول ألبرت أينشتاين صاحب نظرية النسبية في بحث قديم له: "مثلنا إزاء العالم مثل رجل أتى بكتاب قيم لا يعرف عنه شيئا، فلما أخذ في مطالعته وتدرج من ذلك لدرسه وبان له ما فيه من أوجه التناسق الفكري شعر بأن وراء كلمات الكتاب شيئا غامضا لا يصل لكُنْهه. هذا الشيء الغامض الذي عجز عن الوصول إليه هو عقل مؤلفه، فإذا ما ترقى به التفكير عرف أن هذه الآثار نتيجة لعقل إنسان عبقري أبدعه. كذلك نحن إزاء العالم، فنحن نشعر بأن وراء نظامه شيئا غامضا لا تصل إلى إدراكه عقولنا. هذا الشيء هو الله". ويقول السير جيمس جينز الفلكي الإنجليزي الشهير: "إن صيغة المعادلة التي توحد الكون هي الحد الذي تشترك فيه كل الموجودات. ولما كانت الرياضيات منسجمة مع طبيعة الكون كانت لنا به. ولما كانت الرياضيات تفسر تصرفات الحوادث التي تقع في الكون وتربطها في وحدة عقلية فهذا التفسير والربط لا يحمل إلا على طبيعة الأشياء الرياضية. ومن أجل هذا لا مندوحة لنا أن نبحث عن عقل رياضي يتقن لغة الرياضة يرجع له هذا الكون. هذا العقل الرياضي الذي نلمس أثاره في الكون هو الله". وأنت ترى أن كليهما (والأول من أساطين الرياضيات في العالم، والثاني فلكي ورياضي من القدر الأول) عجز عن تصور حالة الاحتمال الخاضعة لقانون الصدفة الشاملة والتي يتبع دستورها العالم، لا لشيء إلا لتغلُّب فكرة السبب والنتيجة عليهما". وكما يرى القارئ فالعالمان المذكوران يجريان مع العقل والمنطق السلس، إلا أن ذلك لا يعجب كاتبنا العجول النَّزِق كما سوف نرى. ونحن نضيف أنه ما دام لكل شىء سبب يقف وراء إيجاده، وأنه كلما كان الشىء الموجود ضخما معقدا باهرا كان موجده أمعن فى المقدرة والإرادة والتنظيم وما إلى ذلك، وأن الكون باتساعه الهائل الذى لا تحيط به الظنون ولا الأوهام، وبنظامه المعقد العديم النظير الذى يصيب متأمله بالدوار والانبهار، يقتضى أن يكون موجدُه من القدرة والإرادة والتنظيم على نحوٍ لا يضاهَى ولا يُعْرَف له حدود ينتهى إليها ولا يستطيع تجاوزها.
ومع ذلك نرى كاتبنا المغرور يعلق على هذا بقوله: "الواقع أن أينشتين في مثاله انتهى إلى وجود شيء غامض وراء نظام الكِتَاب عبر عنه بعقل صاحبه (مؤلفه). والواقع أن هذا احتمالٌ محضٌ، لأنه يصح أن يكون خاضعا لحالة أخرى ونتيجة لغير العقل. ومَثَلنا عن المطبعة وحروفها وإمكان خروج الكتب خضوعا لقانون الصدفة الشامل يوضح هذه الحالة. أما ما يقول السير جيمس جينز فرغم انه أخطأ في اعتباره الرياضة طبيعة الأشياء لأن نجاح الوجهة الرياضية في ربط الحوادث وتفسير تصرفاتها لا يحمل على أن طبيعة الأشياء رياضية، بل يدل على أن هنالك قاعدة معقولة تصل بينه وبين طبيعة الأشياء. فالأشياء هي الكائن الواقع، والرياضيات ربط ما هو واقع في نظام ذهني على قاعدة العلاقة والوحدة. وبعبارة أخرى أن الرياضيات نظام ما هو ممكن والكون نظام ما هو واقع، والواقع يتضمنه الممكن، ولذلك فالواقع حالة خصوصية منه. ومن هنا يتضح أنه لا غرابة في انطباق الرياضيات على الكون الذي نألفه، بل كل الغرابة في عدم انطباقها لأن لكل كون رياضياته المخصوصة، فكون من الأكوان مضبوط بالرياضيات شرط ضروري لكونه كونا. من هنا يتضح أن السير جينز انساق تحت فكرة السبب والنتيجة كما انساق أينشتين إلى التماس الناحية الرياضية في العالم، وهذا جعلهما يبحثان عن عقل رياضي وراء هذا العالم. وهذا خطأ لأن العالم إن كان نظام ما هو واقع خاضعا لنظام ما هو ممكن، فهو حالة احتمال من عدة حالات، والذي يحدد احتماله قانون الصدفة الشامل لا السبب الأول الشامل".
والحق أن قول صاحبنا، بخصوص ما انتهى إليه أينشتاين من وجود شيء غامض وراء نظام الكتاب هو عقل صاحبه (مؤلفه)، إن "هذا احتمال محض، لأنه يصح أن يكون خاضعا لحالة أخرى ونتيجة لغير العقل. ومثلنا عن المطبعة وحروفها وإمكان خروج الكتب خضوعا لقانون الصدفة الشامل يوضح هذه الحالة"، هذا القول هو سفسطة محضة لأنه يستثنى بذلك حالة الكِتَاب من النظام الكونى الشامل الذى يقوم على أن وراء كل مسبَّبٍ فى هذا الكون سببًا، ووراء كل موجود مُوجِدًا، وهو ما لا يمكن أن يوافقه عليه أى صاحب عقل يحترم نفسه! وإلا فليأت لى سيادته بمثال واحد عثر هو أو غيره فيه على كتاب تألف من تلقاء نفسه. ثم من يا ترى الذى خلق قانون الصدفة هذا؟ وحتى لو كانت نظرية الاحتمالات بالمعنى الذى يقصده هنا ويبنى عليه إلحاده صحيحة، وهى غير صحيحة كما وضحنا حين قلنا إن هذه النظرية تقتضى أن يكون وراءها كائن يخلقها وينظِّم كونه على أساسها، فما الذى يجعلنا نترك الاحتمال الذى لا نعرف سواه لأننا لم نر سواه، ونتشبث باحتمال لم نَخْبُره ولم يمرّ بنا فى تجربة من تجارب الحياة، وإنما نفترضه افتراضا ونعرف أنه (إن صح، وهو لن يصح كما قلنا) فإنه يحتاج إلى ملايين السنين، وربما لا يتحقق رغم ذلك كله بعد مرور تلك الملايين من السنين؟ إن العناد هو وحده الذى يسيِّر عقل أدهم هنا فيجعله يترك الطريق الواضح اللاحب المعبَّد المطروق الذى يوصِّل سالكه إلى غايته، إلى طريق مهلك فى بيداء مُعَمّاة متناوحة المسافات من يحاول اجتيازها يهلك ولا يعود كرة أخرى!
ومن الغرور الشائن أن يختم كاتبنا الصغير المتهور كلامه فى الإلحاد بقوله: "إن الصعوبة التي أرى الكثيرين يواجهونني بها حينما أدعوهم إلى النظر إلى العالم مستقلا عن صلة السبب والنتيجة، وخاضعا لقانون الصدفة الشامل تُرَدّ إلى قسمين: الأول لأن مفهوم هذا الكلام رياضي صرف، ومن الصعب التعبير في غير أسلوبها الرياضي ، وليس كل إنسان رياضي عنده القدرة على السير في البرهان الرياضي. الثاني أنها تعطى العالم مفهوما جديدا وتجعلنا ننظر له نظرة جديدة غير التي ألفناها. ومن هنا جاءت صعوبة تصوُّر مفهوماتها لأن التغير الحادث أساسي يتناول أسس التصور نفسه". ووجه الغرور هنا هو أن كلامه يطول اثنين من كبار علماء الرياضيات فى العالم فى عصرنا هذا الحديث، أى أنه يرى هذين العالمين أصغر منه وأعجز عن أن يجاريا عقله هو الذى يمكنه أن ينظر إلى المسألة من الناحية الرياضية لأنه مؤهل لمثل ذلك النظر الرياضى، على حين أنهما لا يمكنهما ذلك، إذ هما أضعف من هذا. وأى غرور أسمج من هذا الغرور؟ لقد كان بمستطاعه أن يقول مثلا إننى لا أستطيع أن أرى الأمر على غير ما قلت، أما أن يقول ما معناه أن هذين العالمين وأشباههما غير قادرِين على ما يقدر هو عليه فسخفٌ ومَعْيَلَةٌ وقلة عقل، إن لم تكن قلة شىء آخر أيضا!
أما قوله: "ولهذه الأسباب وحدها كانت الصعوبة قائمة أمام هذه النظرة الجديدة ومانعة الكثيرين الإيمان بها .أما أنا شخصيا فلا أجد هذه الصعوبة إلا شكلية، والزمن وحده قادر على إزالتها. ومن هنا لا أجد بدا من الثبات على عقيدتي العلمية والدعوة إلى نظريتي القائمة على قانون الصدفة الشامل الذي يعتبر في الوقت نفسه أكبر ضربة للذين يؤمنون بوجود الله" فلا أسوق فى الرد عليه أكثر من أنه لم يستطع أن يستمر فى هذا الإلحاد الذى كَذَبَ فزعم أنه يزوّده بسكينة لا يعرفها أكثر المؤمنين إيمانا، فبَخَعَ نفسه ووضع حدا لحياته تلك البائسة التاعسة التى كانت خير تكذيب لكل ما زعم وافترى! والعجيب بعد ذلك كله أن نقرأ له، فى الكلام عن الزهاوى وكيف تحول أولا من الإيمان بالله إلى الإلحاد ثم عاد ثانية إلى الإيمان بالله عن طريق النظر فى الكون ووحدة قوانينه، أن "هذه العقيدة التى يقيم عليها الزهاوى صرح تصوفه (يقصد إيمانه بالله) فى الواقع أساسية فى التفكير العلمى، وهى مستمدة أصولها من مطالعات الزهاوى للمؤلفات الرياضية التى كانت تنقل إلى التركية عن الفرنسية" (من الصفحات الأولى من كتاب أدهم عن الشاعر جميل صدقى الزهاوى). والله إن هذا لأمر يطير البرج من العقل. إن أدهم لا يثبت على شىء، فهو يقول كلاما، ثم سرعان ما ينبذه ويقول كلاما سواه، لينبذه بدوره ويردد كلاما آخر... وهكذا دواليك. وهنا نرى أن الرياضيات كانت أساس الإيمان الجديد عند الزهاوى، وكانت هى ذاتها قبلا أساس الإلحاد عند أدهم! وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإن الزهاوى الذى أعجب أدهم لدرجة الكتابة عنه تمجيدا له كان ملاينا (إن لم نقل: ممالئا) للإنجليز، فى الوقت الذى كان يهاجم كثيرا من مقدسات الأمة. فهم كلهم، كما ترى، مجبولون من نفس الطينة!
على أنه لا بد من لفت نظر القراء الكرام إلى أن أدهم لم يكن ضد الإسلام فحسب، بل كان ضد الوطنية أيضا. وقد نشر كتابه: "من مصادر التاريخ الإسلامى" (وهو الكتاب الذى يهاجم فى مفتتحه الوطنية والدين جميعا) فى مصر، فما معنى ذلك؟ معناه أنه، وهو الذى يقول إنه كان يعمل ساعتها فى روسيا وكيلا لمعهدِ لا أدرى ماذا للدراسات الشرقية، لم يجد إلا مصر ليبث منها دعوته هذه العجيبة والمريبة. يقول ملحدنا المخلول العقل تحت عنوان "الإهداء": "إلى أحرار الفكر: إلى الذين حرروا الفكر من قيوده، وجاهدوا فى سبيل تحرير العقل الإنسانى من الأساطير الدينية والمزاعم الوطنية والذين أخذوا بيد الجماعات الإنسانية إلى الحياة الصحيحة أُهْدِى هذا الكُتَيّب لعلهم يجدون فيه نظرة حرة بعيدة عن تعصب الدين وجموده" (مطبعة صلاح الدين الكبرى/ القاهرة). إذن فالمسألة لم تكن إلحادا فحسب، بل خداعا للناس فى بلادى لخلعهم فى هدوء، وتحت اسم حرية الفكر الكاذبة، حتى من وطنيتهم. ترى ماذا يتبقى لنا بعد هذا وذاك؟
ولماذا، إذا كان هذا الدجال صادقا فى دعوته تلك، لم يَدْعُ بها وينشرها فى روسيا حيث يقول إنه كان يعمل يوما وحيث الحاجة إليه أقوى وأشد، إذ كان الاتحاد السوفييتى يضم بين جنباته شعوبا وأمما غير روسية يحكمها بالحديد والنار حكما يقوم على التعصب للروس والعدوان على تلك الشعوب والأمم، أو فى تركيا حيث كان مصطفى كمال يقرع طبول الوطنية كى يضرب بها النزعة الإسلامية؟ أما فى مصر حيث نشر ملحدنا كتابه ذاك التافه فقد كنا نرزح تحت احتلال البريطانيين منذ عشرات السنين، وقبلها أتانا أولئك الملاعين فى بدايات القرن التاسع عشر كى يلتهموا بلادنا، لكن الله قد شاءت إرادته أن يتأخر سقوطنا تحت سنابك خيول الأوغاد المجرمين بضع عشرات من الأعوام، وقبلها أيضا بقليل قاسينا الاحتلال الفرنسى لثلاث سنوات، وقبل ذلك بعدة قرون جاء الصليبيون إلى العالم العربى واقتطعوا فلذاتٍ من أرضه الطاهرة وظلوا ينجّسونها قرنين من الزمان حتى قيض الله لها صلاح الدين وأضرابه من حكام المسلمين الأبطال ذوى الشهامة والرجولة والعزة والمجد (لا حكام هذه الأيام الذين فقدوا، مثل شعوبهم الجبانة المستخذية، كل إحساس بالرجولة والكرامة والمجد والعزة والفخار، لعنة الله على هؤلاء وهؤلاء!) فكسحوهم إلى بلادهم كما تُكْسَح مياه المجارى وفضلاتها المنتنة، تلاحقهم لعنات الله والملائكة والجن والإنس أجمعين. فأية مزاعم وطنية جاء "أبو سُمْعَة الأصلى" لكى يحررنا منها؟ إنه لم يكن مصريا ولا عربيا لا من جهة أمه ولا من جهة أبيه، فما الذى كان يدفعه إذن للانشغال بأمرنا؟ أيرى القارئ أى فرق بينه وبين من يتبرعون الآن من الملاحدة الشيوعيين وغير الشيوعيين (ممن باعوا نفوسهم برُخْص الزُّبَالة لأعداء الملة والدين، وأخذوا يتمرغون فى أوحال العمالة والخيانة فى نذالةٍ وخزىٍ) لتوهين مشاعرنا الوطنية والدينية وتكسير روحنا المعنوية حتى لا يكافح منا مكافح ضد الهجمة الصليبهيونية التى تريد أن تمحونا من صفحة الوجود محوا؟ ألا ما أشبه الليلة بالبارحة!
ولكى يطلع القارئ على مدى إخلاص أدهم فيما كتب داعيا إلى القضاء على الوطنية أنقل له هذه الفقرة من دراسته التى سلفت الإشارة إليها عن إسماعيل مظهر (الكاتب المصرى المعروف ذى الأصول التركية): "وُلِد مظهر من أسرة تركية من سلالة هؤلاء الأماجد الذين سطروا فى سجل التاريخ صفحة رائعة بفروسيتهم وشجاعتهم، أولئك الذين نشأوا فى سُهُوب آسيا الوسطى فاستمدوا من براريها التى تمتد مع امتداد البصر طبيعتها التى لا تتصنع الإقدام مع الشجاعة والصراحة. وبهذه الصفات وحدها ملكوا العالم فى حقبة من الزمن لا تتجاوز بضع دورات من دورات هذا الفلك السيّار. ولا مُشَاحّة أن إسماعيل مظهر ورث عن أجداده المتحمسين خلال الإقدام والشجاعة وصلابة الرأى والصراحة والاستقلال المطلق والتمرد على كل شىء، وساعد على هذه الوراثة نشأتُه الحرة التى تركت لكفايته الطبيعية أن تنمو فى اتجاهها الطبيعى. لهذا خرج مظهر نسيج وحده بين المصريين"! بالضبط مثلما خرج أدهم نسيج وحده فى العبقرية بين العالمين من عباد الله أجمعين من إنسيين وجنيين! وانظر كذلك هذه العصبية للعرق الطورانى فى بداية بحثه عن الشاعر التركى عبد الحق حامد حيث يتغنى أدهم بخصائص الطورانية وكفاياتها السلالية الممتازة. وهكذا تكون الدعوة المخلصة الصادقة إلى نبذ الوطنية على الطريقة الأدهمية الباذنجانية السَّمَكِيّة اللَّبَنِيّة التَّمْرهِنْدِيّة، وإلا فلا. ألا فليفضح الله كل كاذبٍ عيّار فى أصل وجهه! ولعله سبحانه يقيّض لنا يوما من قد يكتشف أن هناك سرا سياسيا وراء انتحار أدهم، سرا له علاقة بالقوى العالمية الخفية التى تعمل على تجنيد كل من تستطيع تجنيده لمحاربة العروبة والإسلام وتمهيد الطريق أمام جيوشهم ومدافعهم لاكتساح بلادنا مثلما هو الحال فى حالة انتحار بول كراوس بعد ذلك بسنوات قلائل حسبما كتب تلميذه وصديقه د. عبد الرحمن بدوى لدى ترجمته لذلك اليهودى الغامض فى كتابه: "موسوعة المستشرقين".
ومع ما قاله هذا المفكَّك العقل المغيَّب الذهن عن جمود الدين وتعصبه وأساطيره وخزعبلاته نجده (بعد عدة فقرات لا غير من كتابه عن "مصادر التاريخ الإسلامى") يقول عن الإسلام ما نصه: "أيقظ الإسلام العقول الجامدة من سُبَاتها وولّد فى تيار العقل الإنسانى مجرى جديدا، ولم يمض القليل حتى أخذ التاريخ يرى فى ربوع الشرق الأدنى مدنية خالدة بآثارها إلى اليوم. ولو لم يكن للإسلام إلا ما أنشأ من حضارة فى العصور الوسطى حفظت تراث الإنسانية من الضياع لكفاه فخرا إلى الأبد" (ص 3). وعبثا تحاول أن توفق بين هذين الموقفين له من الدين. ولكن هوّن على نفسك، فليس للرجل تفكير منظم ولا عقل محكم ولا موقف متبلور واضح، إنما هو كلام يأتيه عفو الساعة فيذيعه أيضا عفو الساعة بعَبَله، أو بعُجَره وبُجَره كما يقول القدماء، ولا مانع إذن أن يقول الآن شيئا، وبعده للتو واللحظة يقول عكسه. إن أمثاله يقرأون، لكن المصيبة كل المصيبة أنهم لا يهضمون ما يقرأون، فضلا عن أن يكون لهم بناء فكرى متماسك ومتناسق. ذلك أن عقليتهم ليست من المتانة والترتيب بحيث يمكنهم أن يقيموا مثل هذا البناء! يقرأون: نعم! يفهمون ويهضمون: لا وألف لا! هذا هو وضع المسألة ببساطة.
وبالمناسبة نراه، فى الصفحة الخامسة من مقدمة هذا الكتاب التافه، يقول إنه عرض على مدير المعهد الروسى للدراسات الشرقية المستشرق كازيمرسكى (فى الثلاثينات من القرن العشرين) أن ينشر له ذلك الكتاب المذكور، وهو (كما ذكر) يمثّل الفصل الأول من كتابه عن الرسول ونشأة الإسلام فقَبِل. والمعروف أن هناك كازيمرسكيًا بولنديًّا مات قبل ذلك بعشرات الأعوام، وعلى وجه التحديد فى 1865م، وكان يعيش فى فرنسا. وهذه بعض المعلومات عن ذلك المستشرق تختلف عما ذكره أدهم: "كَازِيمِرْسْكي (1780_ 1865م): "بيبرشتاين كازيمرسكي B. Kazimirski مستشرق بولوني استوطن فرنسا، ونشر فيها معجمه الكبير: "كتاب اللغتين العربية والفرنساوية" في أربعة مجلدات, ويُعْرَف بقاموس كازيمرسكي. وتَرْجَم إلى الفرنسية معاني القرآن الكريم". فمن الواضح أننا فى حديث أدهم هنا بإزاء كازيمرسكى آخر غير كازيمرسكى الذى نعرفه. هذا، وقد وجدت عدة تعليقات على البحث الذى وضعه أدهم فى أدب توفيق الحكيم ونشره له سامى الكيالى عن مطبعة مجلة "الحديث" الحلبية، وهذه التعليقات موجودة على الصفحة التى تلى مباشرةً مقدمة الكيالى للكتاب، ومنها تعليق باسم المستشرق فيسفولد كازميرسكى، كما أن هناك هامشا فى دراسة أدهم عن جميل صدقى الزهاوى يحيل إلى بحث لهذا المستشرق، أما فى بحثه عن خليل مطران فثمة إشارة إلى كتاب لنفس المستشرق بعنوان "منتخبات من الأدب العربى الحديث"، وأغلب الظن أنه هو المستشرق المقصود هنا. وبالمناسبة أيضا فقد ذكر إسماعيل أدهم فى كتابه: "لماذا أنا ملحد؟" أن له كتابا بالروسية فى الرياضيات وفلسفتها، فيا ليت من يتوفر على البحث عن هذا الكتاب وترجمته أو على الأقل التعريف به، وله من الله المثوبة والجزاء!
ولا تنتهى حكاية إسماعيل أدهم عند هذا المدى، بل هناك أشياء أخرى يحسن أن نتريث إزاء بعضها قليلا كى تتضح صورة الرجل العقلية ويتبين للقارئ من كلامه ذاته أنه كان مضطرب الفكر متحير العقل لا يستطيع أن يفكر تفكيرا سلميا متزنا برغم كل ما جاء على لسان بعض من كتبوا فى موضوع انتحاره عن نبوغه وفتوحه فى عالم الفكر. لقد روى لنا الرجل، فى مقدمة كتابه: "من مصادر التاريخ الإسلامى" (وأحسب أنه يغالى ويهوّل فى ذلك كثيرا ويجرى فى بيداء الشطح كما يحلو له)، أنه عكف لمدة غير يسيرة على السيرة النبوية وأحاديث الرسول عليه السلام وتاريخ تلك الفترة وما يليها وتتبع تقريبا كل ما كتب عنها فى التراث وفى دراسات المستشرقين بكل اللغات وفى كل المدن الأوربية والأفريقية والآسيوية، وأنه انتهى من كتابة خمسمائة صفحة فى هذا الموضوع، وقدّر أن بإمكانه الوصول بهذه الصفحات إلى رقم الثلاثة الآلاف. ثم ننظر فيما نشره الرجل من هذا كله فنجده لا يزيد على خمسين صفحة! فتأمل أيها القارئ الكريم مدى الفرق الشاسع بين شطحات الرجل المحلقة فى سماوات الخيالات والأوهام وبين واقعه التعبان. مسكين!
ثم نأخذ فيما قاله فى تلك الدراسة فنسمعه يشكك فى أن يكون اسم النبى هو "محمد"، مؤكّدًا، على الضد من ذلك، أنه كان يسمَّى: "قثما" أو "قثامة" (ص 7)، وهى بالضبط طريقة المستشرقين المداورة التى تشكك فى كل ما لا يعجبها فتذهب وراء الفروض الغريبة التى ينكرها العقل إنكارا وتتعارض مع النصوص الوثيقة تعارضا شديدا كما تعكسها "دائرة المعارف الإسلامية" حسبما بينتُ وأثبتّ ذلك بالنصوص والوثائق فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية: أضاليل وأباطيل". وبطبيعة الحال من حق كل واهم أو موهوم، وكل خائل أو مختال، أن يقول ما يشاء فيما يشاء على النحو الذى يشاء. لكنْ عليه، إذا أراد منا أن نلقى بالا إلى ما يقول، أن يكون هذا الذى يقوله متسقا، على الأقل، بعضه مع بعض لا متناقضا من سطر إلى سطر، ومن جملة إلى أخرى، وإلا افتقر الكلام إلى المنهجية العلمية. كيف ذلك؟ لقد صدّعَنا الرجل بتأكيده أن القرآن هو وحده المصدر الإسلامى الذى يمكن الاطمئنان له من جهة التاريخ، أما الحديث وأما السيرة فلا يصلحان على الإطلاق لاعتماد المؤرخين والدارسين عليهما. عظيم جدا جدا، فتعال إذن يا أخ إسماعيل يا نابغة (ويبدو أن كل من يهاجم الإسلام يوصَف من قديم بأنه نابغة وعبقرى)، وأجب على السؤال التالى: أنت إذن تقول إن القرآن هو المصدر الوحيد الذى يمكن الاستناد إليه والتصديق بما جاء فيه عن حوادث التاريخ الإسلامى الأول، أليس كذلك؟ بلى قلت ذلك، فهو مسجل عليك فى هذا الكتاب ولا يمكنك أن تنكر منه حرفا لا أنت ولا من يتشدد لك. فكيف فاتك إذن يا نابغة الدهر الأول والأخير، بل يا نابغة كل الدهور والعصور، أن القرآن الذى لا تطمئن إلا له قد ذكر أن اسمه عليه الصلاة والسلام هو "محمد" لا "قثم" ولا "قثامة"؟ ألم يكن العقل والمنطق وسلامة المنهج تقتضيك أن تصدّق بما أتى فى القرآن وترفض ما عداه من الروايات التى تقول إن اسمه لم يكن محمدا بل قثما أو قثامة؟ وهذا إن كانت هناك مثل هذه الرواية العجيبة. أم أنت ممن يحُلِوّنه عاما ويُحَرّمونه عاما على مقتضى نزواتهم وشهواتهم؟ ألا بئس هذا منهجا وتفكيرا!
أما إذا كنت قد رجَعْتَ عن رفضك لما عدا القرآن من مصادر التاريخ الإسلامى (وهو ما لا يمكن أن يكون، لأنك قلت ما قلت عن اسم رسول الله عقب إعلانك مباشرة أنك لا تثق بغير القرآن أىّ مقدار من الثقة)، فكيف تترك الاسم الذى تضافرت عليه الروايات ولا يعرف المسلمون سواه، اللهم إلا إن كان هناك رواية شاذة لملتاث أو مخبول يزعم أن اسمه عليه الصلاة والسلام كان شيئا آخر غير محمد؟ وهذا كله لو لم يكن هناك قرآن ينص على أن اسمه هو ذاك الاسم. وبطبيعة الحال لا يمكن أن يقال إن القرآن قد لفّقَ له هذا الاسم، لأنه لو كان هذا صحيحا ما سكت الكفار ولا الصحابة على السواء ولشنّع الأولون على القرآن وصاحبه، وأبدى الآخرون دهشتهم واستغرابهم وكان بينهم وبينه سِينٌ وجِيمٌ ولسَجَّلَتْ ذلك كلَّه الرواياتُ كالعادة. علاوة على أنك قد أعلنت وثوقك بالقرآن، وبالقرآن وحده، وثوقا مطلقا، فلا فكاك لك من أن تسلم بما قاله فى هذا السبيل! من هنا يتجلى لكل ذى عقل أن صاحبنا لا يحسن التفكير واستنباط النتائج من المقدمات ولا يستطيع أن يكون متسقًا مع المبدإ الذى وضعه هو بنفسه لنفسه.
وبسبب قول أدهم إن القرآن هو وحده المصدر الذى يعتمد عليه فى دراسة تاريخ تلك الفترة فإن بعض الباحثين يجعلونه من القرآنيين كالدكتور خادم بخش فى كتابه: "القرآنيون وشـبـهـاتـهـم حــول السنة"، وهو ما يثير دهشتى وعجبى رغم قوة بحث الدكتور بخش وسعة استقصائه ومتانة براهينه، إذ إن ذلك التركى المغرور المتعجل لم يكن يؤمن لا بقرآن ولا بسنّة، بل كان ملحدا بإقراره هو نفسه، فكيف يقال عنه: "قرآنى"، وكأنه كان يؤمن بالقرآن؟ لقد كان رد بعض الباحثين ممن قرأت لهم بأُخَرة أن المقصود هو أنه كان يعتمد على القرآن فى بحثه لتاريخ تلك الحقبة لا أنه كان يؤمن بالقرآن. لكن فات هؤلاء أن مصطلح "القرآنيين" إنما يطلق على من يقولون إنهم لا يأخذون فى أمور العقيدة والتشريع والأخلاق إلا بما جاء فى القرآن الكريم. وعلى هذا فإن تسمية أدهم بــ"القرآنى" هو استعمال للمصطلح فى غير محله ومعناه، وهو ما يميّع الأمور ويوهم القراء غير العارفين أنه كان يؤمن بالقرآن ككتاب سماوى لا كمصدر لدراسة التاريخ فحسب! صحيح أن "كثيرا" من القرآنيين، فيما أتصور، لا يؤمنون بقرآن ولا بسنّة أيضا مثله، إلا أن هناك فرقا بينه وبينهم، ألا وهو أنهم لا يعلنون كما يعلن هو أنهم ملاحدة، وهذا ليس بالفرق الهين حتى لو قلنا إنهم لا يؤمنون بإلهية المصدر القرآنى فى واقع الأمر كما يعتقد كاتب هذه السطور. وأعجب من ذلك تصنيف بعض الكتاب المسلمين لأمثال سلامة موسى وجولدتسيهر بين القرآنيين، رغم أنه لا علاقة لهم بالإسلام البتة ولا حتى من جهة الميلاد أو الاسم، كما هو الحال فى مقال "منكرى السنة" المنشور فى موقع "بلدى" لصاحبه أبو إسلام أحمد عبد الله.
ومن مظاهر اضطراب فكر الرجل أيضا ما جاء فى بداية الفصل الأول من كتيبه التافه الذى نحن بصدده (ص ، ألا وهو قوله أولا إن "الحديث ما ورد عن النبى محمد من قول أو فعل أو تقرير"، إذ يعود فيقول (فى "التسوية" بين الحديث والسيرة وأنه لا فرق بين هذين العِلْمَيْن) إن الحديث يتناول ما قاله الرسول، والسيرة تتناول حياته وأفعاله. وهو كلام فى التفرقة بين العلمين لا فى التسوية بينهما، ومعناه فى أحسن الأحوال أن كلا منهما يكمل الآخر، ولكنه لا يساويه كما هو بين حتى للأعمى! ومعناه أيضا أن الرجل يقول الشىء ونقيضه: فقد عرَّف الحديث أولا بأنه "ما ورد عن النبى محمد من قول أو فعل أو تقرير"، وها هو ذا يرتد على عقبيه فيقول إن الحديث يختص بــ"أقوال النبى" فقط، على حين تختص السيرة بــ"حياته وأفعاله". وهذا كله فى أسطر قلائل جدا جدا. وبالمناسبة فكلامه كله إنما يعكس تخبطا وصبيانية لا يليقان بأى دارس مهما يكن نصيبه من العلم وفهم المنهج العلمى. الواقع أن هذا الرجل مصاب بإسهال فى الكلام ولا سيطرة له على ما يقول، بالضبط مثلما لا يستطيع المُسْهِل أن يسيطر على تشنجات أمعائه ومَخْرَج فضلاته! ثم مثال آخر: فهو يؤكد أن الأحاديث والروايات المنسوبة إلى الرسول ليست له ولا منه فى شىء، بل تعكس ما كان المسلمون فى القرون الهجرية الثلاثة الأولى يريدونه من الإسلام (ص 21 وما بعدها). عظيم! فأين ذهبت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذن؟ ذلك ما لم يحاول هذا المغرور أن يجيب عليه. أيعقل أن المسلمين كانوا حرصاء كل هذا الحرص على ترديد الكلام المكذوب على الرسول ثم لم يهتموا أى اهتمام بالحفاظ على ما صدر عن رسول الله فعلا من قول أو عمل؟ ذلك غريب كل الغرابة بل مستحيل كل الاستحالة! إن فى هذا اتهاما شنيعا للأمة كلها بالكذب واللامبالاة بالدين لا يمكن أن يصدقه عاقل، أما الملتاثون فليسوا حجة فى ميدان العلم، إذ لا حجة لأى مخلوق اختل منه العقل وتفكك الذهن!
أم تراه يقول إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يتكلم إلا بالقرآن مثلما قال أحد صبيانه، وهو أحمد صبحى منصور، الذى يكذب كذبا مفضوحا فينكر، ضمن ما ينكر، أن يكون الرسول فى أى من خطبه يوم الجمعة قد قال شيئا قط سوى بعض الآيات القرآنية فى كل مرة، مما جعلنى أسوق (فى دراستى التى وضعتُها فى الرد عليه) عددا كبيرا من خطبه صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وغيرها من المناسبات الدينية تكذيبا لهذا الدجال الكاره لدين محمد والمكفر لأمته جميعا بما فيهم الصحابة على بكرة أبيهم والذى لا يجد فى الدنيا من يضع يده فى يده لبناء مسجد يتعبد فيه (على سنة الشيطان طبعا) إلا سعد الدين إبراهيم ومجدى خليل الناشط القبطى المسعور الذى يدعو مع صبحى منصور أمريكا إلى التدخل فى مصر لإجبارها على المشى على العجين القبطى دون أن تلخبطه!
على أية حال فالمنهج العلمى إنما يقتضينا، بدلا من تكذيب الأمة كلها ورميها بالتآمر على دينها ورسولها بدم بارد، ومن ثم رفض الروايات كلها على طريقة العوام والطغام حين يقولون: "الباب الذى يجيئك منه الريح، سُدّه فتستريح!" كما يصنع أدهم، هذا المنهج العلمى يقتضينا أن نعكف على الروايات والأحاديث المنسوبة للرسول الكريم ونبحث الأسباب التى تدعونا إلى الشك فى كل منها، أما السير على أسلوب "كله عند العرب صابون (والترك أيضا فوق البيعة)" فهذا لا يصح فى ميدان العلم والبحث المنهجى، بل يصح فقط عند العامة وأشباههم. ثم يصف بعض الناس الرجل بالعبقرية والنبوغ!
وممن غالَوْا أشد المغالاة فى مديحه الدكتور أحمد إبراهيم الهوارى، إذ كتب تعقيبا على ما قاله هو نفسه عن الكتيب التافه الذى بين أيدينا ومصادرة الحكومة له: "وهو كاتب مستوعب مسهب لا يتهيب مباحثه مهما كانت عويصة، وأسلوبه (على نحو ما سيرى القارئ) يميل إلى المنهج العلمى فى التدقيق والتخصيص حتى فى الأدبيات الخالصة. على أن آراءه العلمية أخذت تتسرب كأنها زيت على الثوب سرح فى نسيج الدراسة النقدية" (د. أحمد إبراهيم الهوارى/ المؤلفات الكاملة للدكتور إسماعيل أدهم/ 2/ دار المعارق/ 1984م/ 49). والحق أنه لا يَصْدُق من كلام الدكتور الهوارى إلا تشبيهه كتابات أدهم بالزيت، فهى فعلا زيت قد بَقّع نسيج النقد والأدب والتاريخ ووسَّخه ولوَّثه بما فيه من تفاهة وخلل فكرى وتهافت فى المنهج كما توضّح الأمثلة الصارخة التى أوردتها هنا، وفى كتاباته الكثير جدا من أمثالها لمن يريد أن يرجع بنفسه إلى تراث الرجل، إن تجاوزنا وسمينا هذه التفاهات الصبيانية: "تراثا"!
وفى النهاية أود أن أعيد التأكيد بأن التناقض والسطحية والعمومية هى سمات أصيلة فى فكر أدهم وعقليته. وهذه السمات ليست مقصورة على فكره الدينى، بل نجدها أيضا فى دراساته الأدبية التى طبّل لها بعض الكتاب رغم ما فيها من ثرثرة لا طائل وراءها وقيامها فى معظم الأحيان على التعميمات واللجوء إلى الأوصاف التى تَصْدُق على كل شىء وأى شىء والإبهام الذى لا يخرج القارئ منه فى كثير من الأحيان بشىء، وكذلك النقل من الآخرين دون هضم وبقاء المنقول من ثَمَّ أمشاجا منفصلة. وهذه أمثلة ثلاثة على ما نقول، وهى مأخوذة من كتابه: "توفيق الحكيم"، الذى قام على خلل شديد فى المنهج العلمى، إذ استند فى تأريخ حياة الرجل وتحليل شخصيته إلى روايتيه: "عودة الروح" و"عصفور من الشرق" وكأن بطلهما هو الحكيم نفسه بالتمام والكمال لا يزيد ولا ينقص، غافلا (لأنه لا يفقه الأدب ولا الفن القصصى على أصوله) أن ثمة فروقا بين الشخصية القصصية ومؤلفها قليلة أو كثيرة مهما قامت الدلائل على تقاربهما، وأن الخلط بينهما إلى درجة القول بتطابقهما هو دليل على جهل غليظ نعوذ بالله منه وممن يرتكبه عن رعونةٍ وخُرْقٍ وغرور!
وقد ألفيتُ الأستاذ الحكيم على هذا الرأى أيضا رغم ما أغرقه به أدهم فى ذلك الكتاب من ثناء، إذ قال (فى ملاحظاته الموجودة فى نهاية طبعة الكتاب الثانية سنة 1984م عن مكتبة الآداب) إنه "لم يهتم كثيرا بهذه الدراسة وقت ظهورها لأنه لاحظ أن كاتبها المرحوم الدكتور أدهم اعتمد فيها اعتمادا أساسيا على رواية "عودة الروح" واعتبرها وثيقة تاريخية، لم يفرق بين "الرواية" و"السيرة الذاتية". فالرواية عمل إبداعى يدخل فيه الخيال ولوازم الفن الروائى، فى حين أن السيرة الذاتية عمل توثيقى يلتزم بالحقيقة التاريخية... (و)لا يخلط هذا الخلط بين الرواية والسيرة الذاتية غير ناشئة النقاد والدارسين ممن لا يتعمقون الأنواع، وينظرون فقط إلى سطوح الشكليات". وأذكر الآن أننى قلت هذا الكلام عام 1969م فى إحدى محاضرات النقد فى السنة الأخيرة من دراستى الجامعية تعليقا على ما صنعه أحد الزملاء الذى أصبح بعد ذلك بقليل أستاذا لأخى الأصغر فى المدرسة الثانوية، إذ مضى يتحدث عن بطل رواية "عصفور من الشرق" على أساس أنه توفيق الحكيم بالتمام والكمال، وكان رأيى أنه ليس هناك دليل على أن كل ما وقع لبطل هذه الرواية أو وقع منه قد حدث فعلا فى دنيا الواقع، اللهم إلا إذا قال هذا توفيق الحكيم بصريح العبارة، وهو ما لم يحدث، فضلا عن أن الرواية عمل خيالى لا يمكن أن يكون صورة مطابقة للأحداث والشخصيات التى يستلهمها الكاتب مهما كان حرصه على الاقتراب منها.
ويجد القارئ أول الأمثلة الثلاثة (التى أشرت إليها آنفا) فى القسم الثامن من الباب الأول، حيث نطالع الحكم التالى عن رواية العقاد: "سارة"، وهو حكم يعيبه التناقض والإبهام والعمومية إلى حد بعيد، فضلا عن الركاكة فى الأسلوب: "أما العقاد فقد نشر عام 1937 قصة "سارة". وفى هذه القصة تتجلى طبيعة العقاد، تلك الطبيعة الواقعية الآخذة بأسباب التحليل. ومن هنا كانت براعة الأستاذ العقاد فى تصوير الخلجات النفسية والمشاعر والإحساسات الذاتية. ويمكننا أن نفهم سر هذا الاتجاه من العقاد إذا أحيطت من الأسباب المادية والاجتماعية المتقلقلة ما أحيط بالعقاد انقلبت إباحية. ومن هنا يمكن فهم الإباحية فى أدب العقاد والهجو على اعتبار أنها تابعة لنزعة أخرى هى الطبيعة الواقعية الآخذة بأسباب التحليل، وهذه هى الصفة الأساسية من نفس الأستاذ العقاد. أما قصته: "سارة" فيمكن أن تعتبر أحسن ما فى الأدب العربى من القصص الواقعى التحليلى، غير أن التناقض فى تصوير الخلجات والجفاف فى العرض، بمعنى جفاف الحيوية فى أسلوب التعبير، لا تقف بها عالية كثيرا عن قصة"زينب" للدكتور هيكل باشا". فانظر مثلا كيف يُقِرّ أولا ببراعة العقاد فى تحيل شخصيات "سارة"، لكى يستدير فيتهمه بالتناقض وجفاف الأسلوب معًا فى ذلك التحليل، زيادة على تهافت لغته وغموض ما يريد أن يقول أحيانا. وأما ثانيها فيطالعه القارئ فى أول هامش من هوامش الباب الثالث من نفس الكتاب، إذ يؤكد فى بداية الكلام أنه "لم يختلف أدباء العربية ومفكروها فى شىء قدر خلافهم فى تحديد معنى الفن والأدب والفنان والأديب..." ليعود بعد أسطر معدودات فيؤكد العكس تماما: "ومن المهم أن نقول إن الاتفاق يكاد يكون تاما بين كتاب العربية على أن الفن أو الأدب هو التعبير الحسن عن الأفكار والمشاعر، وليس لنا إلا أن نقول عن هذه النظرة سوى أنها صحيحة لو نظرنا للفن والأدب من جهة العرض والإبراز...".
ويبقى المثال الثالث، وهو أشبه شىء بالأحجبة والتعاويذ التى تُتَّخَذ لاستدعاء الجن والشياطين: "إن استنزال المعانى بقوةٍ مظهر من مظاهر الطبيعة الفنية، وهى فى الفن المسرحى تأخذ منحى خاصا يتجلى فى السياقة واستنزال المعانى منها. والفنان بحاسته الفنية تجده يحطم حدود المعنى المحدود فى عالم الحس ويصله بعالمه فى النفس حيث عالم ما وراء المحسوس. وتكون نتيجة ذلك أن يدور المعنى فى الذهن، وعن طريق التداعى تولد المعانى والصور فتنثال على الذهن انثيالا كما تتزاحم عليه الصور. وهذا الانثيال فى المعانى والتزاحم فى الصور إن اجتمعا فى مشهد واحد تداخلت المعانى وتمازجت الصور، يكون شىء من الرمز. وعلى هذا الوجه يفسر الاتجاه الرمزى فى قاعدة علم النفس. ومن المهم أن نقول إن قاعدة التداعى من حيث يدعو المعنى معنًى آخرَ عن طريق المشابهة، والصورةُ صورةً أخرى عن طريق المقاربة، تجرى فى ذهن الفنان بما يتكافأ وطبيعته، فهى عند الأستاذ توفيق الحكيم تجرى بقوة. ولأن ذهنه صاف (intégrité) فالمعانى والصور تأسر مخيلته، ومن هنا تبدو مخيلته دائما فى شرود وتيه. ومثل هذا الشرود والتيه يجعل من الصعوبة بمكان أن يدرك الإنسان الأشياء تتـأرجح على خضم من الرموز. وعلى هذا الوجه يمكن تفسير المعنى الرمزى فى فن الأستاذ الحكيم. ولما كانت القوة على توليد المعانى هى شىء يرتبط مجرى التداعى عند الفنان والمفكر، وكلما كانت ذهنية الفنان متؤربة صافية (intégrité) وذات قوة ترابط وتعضون كلما كانت مقدرته على التوليد أظهر. وأنت ترى عند الأستاذ الحكيم تداعى المعانى والأفكار ليستعين بالألفاظ أدواتا لها للبلوغ إلى أغراضها، وهى تستند بجانب ذلك على قدرته على التأليف والتركيب للانتهاء إلى هذه الأغراض. ولما كان الإبداع الفنى يكاد يكون وقفا على التركيب والتأليف، أعنى طراز البناء (édifice) من حيث تنسيق الإحساسات والمشاعر والأخيلة والأفكار فى أوضاع جديدة مدفوعة إلى ذلك بقاعدة التداعى، فمن الأهمية بمكانٍ النظرُ فى سير التداعى ومجرى قاعدته فى الخلوص بالبناء الفنى". ترى هل فهم أحد شيئا من هذه التعويذة الشمهورشية؟