أسألك الرحيل

وزير الثقافة‏..‏ والمسئولية السياسية
بقلم: شريف الشوباشي

هناك ثلاثة مستويات من المسئولية في قضية سرقة لوحة فان جوخ الشهيرة من متحف محمد محمود خليل‏..‏ الأول هو المسئولية الأمنية ويتحملها جهاز الأمن والحراسات الخاص بوزارة الثقافة‏ .

‏ وبصفة خاصة الفرع المنوط به حماية المتحف من السرقة وكافة الأخطار الأخري‏.‏ المستوي الثاني هو المسئولية الإدارية ويتحملها رئيس قطاع الفنون التشكيلية ومدير متحف محمود خليل حيث أن من صميم مسئوليتهما أن يقوما بتوفير جميع وسائل الحراسة البشرية والتجهيزات التأمينية ومتابعة عمل الجهاز الأمني‏.‏
أما المستوي الثالث والأعلي فهو المسئولية السياسية ويتحملها وزير الثقافة شخصيا بصفته واجهة الوزارة ورمزا لكل قطاعاتها وأجهزتها‏.‏ وغني عن الذكر أن هذا المستوي الثالث من المسئولية ليس من اختصاص جهات التحقيق أو القضاء‏.‏
ومن الواضح أن الوزير عندنا هو الموظف الأعلي لوزارته‏,‏ في حين أن الوزير في الدول المتقدمة هو رجل سياسة أولا وقبل أي شيء آخر ومسئول أمام رئيس الدولة والبرلمان والرأي العام من منطلق مفهوم المسئولية السياسية‏.‏ لذلك نجد أن الوزراء في الدول الغربية عادة ما يكونون بعيدين تماما عن تخصص وزاراتهم نظرا لأن دورهم هو رسم السياسة العامة ووضع التوجهات الاستراتيجية الخاصة بالوزارة من منطلق رؤية الحكومة وبرنامجها السياسي‏.‏ فوزير الصحة لا يكون بالضرورة طبيبا ووزير الكهرباء لا يكون مهندسا ووزير الخارجية لا يكون دبلوماسيا‏.‏
وكثيرا ما نجد نفس الشخصية السياسية تتنقل بين وزارات مختلفة فيصبح وزير الثقافة وزيرا للخارجية ووزير الدفاع وزيرا للداخلية كما يحدث في فرنسا وألمانيا وغيرهما‏.‏
وتكمن المسئولية السياسية للوزير في أن يؤدي من خلال عمله وجهوده إلي دعم الثقة في الحكومة والنظام‏,‏ ولا يتسبب في أقل عبث يطول العلاقة بين الحكومة والشعب‏.‏ وفي حالة وقوع أخطاء أو تصرفات تسيء إلي الوضع السياسي وتهز صورة الحكومة أمام المواطنين فإن ذلك هو لب المسئولية السياسية للوزير‏.‏
وإذا وقع خطأ من شأنه إحراج الحكومة بأي شكل من الأشكال فهي مسئولية الوزير حتي وإن لم يكن له ذنب مباشر فيه‏..‏ وهو تحديدا ما حدث في موضوع سرقة لوحة زهرة الخشخاش التي أثارت حفيظة الرأي العام وجعلته يتساءل عن مدي جدية الحكومة وقدرتها علي الحفاظ علي كنوز مصر وتراثها الحضاري العريق‏.‏
وإذا تحول الوزير إلي عبء علي النظام الحاكم وإلي خنجر تطعن به الحكومة من قبل الصحافة والأحزاب المعارضة يكون قد استنفد صلاحيته ووصل إلي آخر المدي في مسئولياته السياسية‏.‏
ولا يجوز لأي وزير أن يضع الأوزار علي معاونيه عند ظهور الأزمات ويحتمي وراء كبش فداء يحمله تبعات الخطأ والتقصير‏..‏ فمسئولية الوزير السياسية تبدأ تحديدا باختيار هؤلاء المعاونين الذين يضعهم في مواقع المسئولية وبالتالي فإذا وقعوا في الخطأ فإن ذلك يعني أنه أخفق في الاختيار الصحيح أو أنه لم يقم بواجب المتابعة اللازمة‏.‏
لذلك فليس مخطئا من يقول إن فاروق حسني ليس غفيرا بالوزارة وليس مطلوبا منه حراسة مبانيها ومتاحفها بنفسه‏,‏ وبالتالي فهو لا يتحمل مسئولية سرقة لوحة فان جوخ‏..‏ لكن من يقول ذلك يقصر نظرته علي المستوي الأول وهو المسئولية الأمنية ويغفل تماما البعد الأهم وهو المسئولية السياسية‏.‏
والملاحظ أن وزير الثقافة أفلت من المسئولية السياسية في كل المواقف التي تعرض لها حتي الآن‏,‏ ولعل أخطرها ذلك الحريق المروع الذي اندلع في قصر ثقافة بني سويف عام‏2005‏ وراح ضحيته‏48‏ شخصا لقوا مصرعهم بين ألسنة النيران وهو حادث كان وسيظل نقطة سوداء في تاريخ العمل الثقافي‏.‏
وقد تعرض رئيس قطاع قصور الثقافة للمحاكمة آنذاك علي أساس مسئوليته الإدارية‏..‏ أما المسئولية السياسية‏..‏ فلم نسمع عنها شيئا‏.‏
وعندما ألقي القبض علي رئيس صندوق التنمية الثقافية أيمن عبدالمنعم وأدين بالرشوة اضطلعت جهات الرقابة والتحقيق بدورها بكفاءة عالية‏,‏ كما قام القضاء المصري كما عودنا بتطبيق القانون بكل النزاهة والحيادية المطلوبتين في مثل هذه القضايا الحساسة التي تثير اهتمام الرأي العام‏.‏
وبالتأكيد أن الوزير لم تكن له علاقة بالسرقات والرشاوي والتجاوزات التي كان يمارسها أيمن عبد المنعم لكن مسئوليته هي أنه اختاره ووضعه في هذا الموقع فقام هذا الأخير بتجاوزات وسرقات وتمكن من إرهاب كل من حاول أن يتصدي له‏.‏ ويعلم كل من تعامل مع وزارة الثقافة في تلك الفترة المكانة التي كان يحظي بها هذا الرجل قبل وقوعه في يد العدالة‏.‏
ومرة أخري حوكم المتهم ونال عقابه الرادع‏..‏ لكنه تم وأد المسئولية السياسية في تلك الأزمة‏.‏
وقصة انتخابات منظمة اليونسكو في العام الماضي كانت مثالا آخر لعدم تحمل المسئولية السياسية‏.‏ وقد قلت للوزير بمنتهي الصراحة منذ البداية إن عدم إجادته للغة الانجليزية ستكون عائقا أساسيا في سبيل نجاحه لأن أمريكا والدول الناطقة بالانجليزية لا تقبل من حيث المبدأ أن يتولي أي شخص منصبا دوليا كبيرا وهو يجهل الانجليزية‏.‏
كذلك فإن إجادته المتواضعة للفرنسية مقارنة بما هو مطلوب من مدير عام اليونسكو ستشكل هي الأخري مشكلة لا يستهان بها‏..‏ ولأنني تشرفت بالعمل بالأمانة العامة لليونسكو في باريس لمدة خمسة أعوام في الثمانينيات من القرن الماضي فإنني أستطيع قياس المعايير التي يتطلبها منصب المدير العام‏.‏
وأثناء الحملة الانتخابية صرح فاروق حسني أكثر من مرة دون أن يطلب منه أحد ذلك بأنه في حالة فشله في الحصول علي منصب مدير عام اليونسكو فإنه سيترك عمله بوزارة الثقافة‏.‏ ويعلم الجميع أنه برغم الجهود الضخمة والإمكانات الهائلة التي وضعت تحت تصرفه فقد أخفق في الحصول علي المنصب وفازت به البلغارية إيرينا بوكوفا‏.‏ والقول إنه كانت هناك مؤامرة قد حيكت ضد المرشح المصري هي مهاترات أغضبت أوساطا دولية كثيرة وقد تدخلت القيادة السياسية لاحتوائها بسرعة وبنجاح‏.‏
والقضية ليست فقط احترام الكلمة من جانب مواطن عادي قد يتراجع عن عهوده لأي سبب من الأسباب‏..‏ فإن التزام الوزير بوعد قطعه علي نفسه يعتبر جزءا لا يتجزأ من مسئوليته السياسية‏.‏
والخلاصة أنه آن الأوان لإعادة النظر في المفهوم السائد بأن الوزير هو الموظف الأكبر في وزارته‏.‏ فالوزير رجل سياسة بالمعني الكامل للكلمة‏.‏ ومن هذا المنطلق فإنه لا بد أن يتحمل تبعات المسئولية السياسية كما هو الحال في جميع دول العالم المتقدم‏.‏


المزيد من مقالات