روح الشعر(1) بدر اصابه الخسوف الكلى وجابر قميحه

بدر أصابه الخسوف الكلى
الأسرة العربية – الاثنين 16 رمضان 1427ه \ 9 أكتوبر 2006

هو لا يحتاج إلى تعريف وإنما به يعرف الأدب الإسلامي والوطني في إحدى أهم مراحل تاريخ أمتنا، فالدكتور جابر قميحه ليس سيفا من سيوف الشعر فقط بل هو معسكر من معسكرات تدريب الكوادر وإعداد الفرسان، إنه الناقد العادل في زمن تاه فيه النقد بين مجامل ومتحامل ، إنه واحد من أظرف ظرفاء مصر والعرب والذي لا يدركه البعض – وليس هذا بتقصير منهم ، وإنما أتهم د/جابر قميحه بهذا التقصير – أنه واحد من شعراء التفعيلة ( الشعر الحر ) الكبار!! نعم رغم شهرته بالعمودية إلا أن شعره الحر يستحق دراسة متخصصة متقنه تكشف عن تميزه 0

وأنتقل مسرعا إلى القصيدة التي قرأتها قبل التعرف على صاحبها بعامين تقريبا وكنت أصورها من جريدة الوفد وأوزعها على الأصدقاء0

انها قصيدة العامة والخاصة ، قصيدة الشعب ولسان حاله ، وقصيدة المثقفين ورؤاهم المختلفة ، إن القصيدة تتميز بما تحتوى عليه من جميع أنواع ( الوحدة ) المتفق عليها في الدراسات النقدية بل زادت عن المعلوم من هذه الأنواع التي تتمثل في:

الوحدة العضوية : وهى تماسك الأبيات على بنيه عضويه لها بداية ونهاية وأفكار جزئيه تحكم الصلة بين البداية والنهاية
الوحدة الموضوعية: وهى أن يكون الموضوع واحد محدد الغرض والهدف
الوحدة النفسية : الجو النفسي الذي يكتب من خلاله المبدع والذي يسهل عملية الانتقال بين الأفكار الجزئية بين الموضوع الواحد

هذه هي أنواع الوحدة التي لا خلاف عليها ، ولكن جابر قميحه وضعنا هنا أمام نوع جديد دعوني أطلق عليه الوحدة التوقيتية أو ( الوقتية) وتتمثل في كتابة النص خلال وقت الحدث ومن خلاله يعود إلى بعض الأحداث في أوقات أخرى سابقه تتشابه مع الحدث الحاضر في كل شيء إلا الوقت ، ومع ذلك فبراعة الشاعر والحالة النفسية للنص تشعرك بأن الأحداث قديمها وحديثها حدثت في وقت واحد لتشابهها حتى في الأشخاص المسئولة عنها ، ولكن كالعادة هناك نوع من الوحدة غائب دائما لا يتحقق رغم أنه على ألسنة الشعراء والزعماء هل أدركتموه إنه ( الوحدة العربية)!!0

وعودا إلى النص فهو من مواليد ليلة 25 يناير 1990 وهى ليلة سقوط وعزل مسئول أمنى كبير ، أشتق عنوان القصيدة من اسمه 0

وهو نص مملوء بالأوجاع المغلفة بظرف جابر قميحه فازدادت لمعانا ووضوحا0

أنا قلت لك 000 لم تستمع لى
يا "بدر يا ابن الليل 00 والظلمات والزمن الرديء"
كم قلت لك
" الملك لله القدير وليس لك"
فقلت : "كلا أنت كذاب وحاقد"
كم قلت لك" البدر لا يبقى طوال الشهر في كبد السماء
ولسوف ينكبه الخسوف أو المحاق"
فقلت " كلا أنت مرتد وجاحد"
وشتمتنى ولعنت أمى
وولغت فى أعراض أبائى وأجدادى وعمى
ووصفت كلا منهمو 000
بالكلب والخنزير والديوث والقذر النجس
وبصقت فى وجه النحيل الشاحب
" ملحوظة : ما ذقت لحما منذ أخر عيد أضحى 00"
لا أود الوقوف بين المقاطع لكنه شر لابد منه، فالقصيدة طويلة يصعب نشرها كاملة ويصعب ترك الإشارات التى تومى إليها وبها0

فتأمل كيف استخدم الشاعر اسم "بدر" ولم يترك المجال من حوله فاستخدم كل لفظ وصفه تمت للبدر بصله ومن العجيب أن معنى كل لفظ مرتبط بالبدر غير المقصود توافق تماما وحالة الحديث عن البدر المقصود ، ماذا نسمى هذا ؟! أراه توفيق الله لكلمة الحق وكذا فطرة وعبقرية الموهبة لدى الشاعر0

وتأمل الحوارية أيضا بين المتكبر والناصح ، ثم ما أجمل أن ينتهى المقطع بالهامش أو الملحوظة الدامية التى تفسر أسباب شحوبه ، لقد لعب قميحه بهذا الهامش فى المقاطع كلها ليثبت نظرية التوقيت التى تحدثت عنها فى بداية المقال ، إن كل ملحوظة قصيدة بذاتها لو تأملنا 0

وفتحت معجم اسرتى
متورم العينين 00 دامى الجفن 00 مشدوخ الكرامة
يا بدر معذرة فإني لم أجد فيهم كلابا أو ذئابا
وهرعت نحو الجاحظ وكتابه الحيوان أو فى ما كتب
وقرأته فى ضوء بدر شارد متسكع
" ملحوظة : الكهرباء بحينا انقطعت كعادتها لعطل طارئ"
فما وجدت به الطلب
فرفضت يا بدر الليالى والظلام الأرعن
أن اهتدى بمسارك المأفون
فى ليل المآسى الحالكه
" ملحوظة : استغفر الله العظيم 00 كادت براعتى المصون
تهوى إلى السب الرخيص 00 لكنني أحكمت شد وثاقها "
هل هذا كل ما وصل إليه الشاعر من قرأته باحثا عن تبرئة أهله بل شعب مصر كله – الذي يمثله هو كمواطن فى مواجهة متكبر بسلطانه الزائل – من الصفات التى اتهم بها ، لا 000 بل وصل إلى الأهم من التبرئة وصل إلى شهادة إجلال وتقدير لهذا الشعب 0

وعرفت بعد قرأتى 00 وبفطرتي
أن ابن مصر لم يكن أبدا بكلب
وقرأت سيرتهم جميعا
ونظرت أول صفحة
وقرأت بعد البسمله
" ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا 000"

لابد من الوقوف هنا لحظه حول قضية استخدام آيات الذكر الحكيم فى القصائد ، وأقول باختصار : أن بلاغة القرآن تفرد على الشاعر المخلص لقضايا أمته والشاعر المدرك لمعانيه وقدره وجلاله استخدامها ، فهو ينزلها منازل الإجلال والتكريم فتوضح معانيه وتساند أفكاره وهنا لا حرج بل أراه واجبا ، أما الجهلاء والفسقه فيستخدمونه فى غير منازله المحمودة فسحقا لهم وتبت ايديهم0

هذه الآية الكريمة التى استخدمها الشاعر وأسقطها على مصر وشعبها هي إجمال لمشاهد متعددة تثبت أن أسرته الكبيرة مصر وعائلته الصغيرة مجموعة من الأبطال المتسامحين تأمل معي هذه الصور المتلاحقة عن هؤلاء الأبطال:

وقرأت عن جدي الكبير بأنه قد مات فى حفر القناه
عطشان مات 00 جوعان مات
لكنه – يحكى أبى – نطق الشهادة وابتسم
ومضى على آلامه وجراحه 00 عف اللسان
حتى الذي أهوى عليه بسوطه فى حرقة الشمس السعير
إذ كان فى النفس الأخير
جدي دعا أن يهتدي 00000 (1)

وبحثت عن عمى بمعجم أسرتي
لكنني لا 00 لم أجده
قالوا لنا – قد كان ذلك من أسابيع ثلاث –
متلبسا ضبطوه 00 ملتحيا يصلى الفجر00000 (2)

أما أخي فيقول معجم أسرتي
شاءت له شهوات قائدنا الهمام الملهم
أن يدفعوه إلى اليمن
ليحرر اليمن السعيد من الإمامة والمرض
" ملحوظة : البلهارسيا آنذاك بمصر كانت
ذات سلطان وجاه
خمسون من مائة من السكان
كانوا من ضحاياها بمصر 0000"
وهناك فى اليمن السعيد حرقوا أخي
ليسمدوا برفاته أرض الزعيم العبقري 00000 (3)

ورأيت فى عيني أبى المتجلد
دمعا تحجر كالدمى المتجمد
وبعدها من حزنه المكتوم مات
لكنه فى لحظة الزاوي الأخير
سمعته 00 يدعو لنا بالحب والخير الوفير
حتى الزعيم العبقري الملهم
القاتل الآلاف فى اليمن السعيد
أبى دعا أن يهتدي 00000 (4)
أرجو ملاحظة أمرين ، الأول موضوع الوحدة التوقيتية، فهو يتحدث عن جده الكبير فى حفر القناه منذ زمن بعيد وينتقل إلى منذ ثلاثة أسابيع عندما اعتقل عمه وهو يصلى الفجر ثم يعود إلى زمن بعيد وأحداث اليمن ، إن الأحداث والمصائب متشابهة وكأنها مرت فى وقت واحد0

أما الأمر الثاني وقد سبق الإشارة إليه وهو الهوامش أو الملاحظات الجانبية فى نهاية المقاطع إن كل ملحوظة تناسب مقطعها وكأنها تعليق نهائي عليه أو بمعنى أخر خلاصة الكلام ، انها صور لواقع غير مرئي اللحظة لكنه محسوس بمعانيه وشواهده المتشابهة0

وبعد تلك المشاهد المتعددة ، يعود بينا الشاعر إلى الإجمال مرة أخرى ولكنه إجمال مفسر ينهى به هذه الملحمة الواقعية 0

ونساء مصر لم يكن بداعرات
بل كنا نعم الأمهات
وأبى 00 وعفوا أن أقول أبوك أيضا
وجدودنا ورجالنا0000
عاشوا على أرض الكنانة أوفياء
وعلى التعفف والنقاء
وعلى الكرامة والإباء
قد يهدأون ويسكنون
لكن إذا انتهكت كرامتهم وعزهم المصون
ألفيتهم يتسابقون
يتقدمون كما الزلازل والعواصف لا تلين
أما الدم الغالي فعندهم يهون
هكذا يرد الشاعر على المتكبر ليلة عزله، لكنها فى الحقيقة من ليالي وسنوات سابقه على العزل ، فكانت كالبركان الذي سمح له ضعف القشرة الأرضية أن ينفجر0

كم قلت له
ومحضته نصحي ولكن ما استمع
" الملك لله القدير 00" فما استمع
ورفعت صوتي أشهد الآفاق
والأرض الجريحة والكواكب والمراصد والسدم
" يابدر فلتسمع 00 تنبه 00 فلتفق00
فنهاية الظلم العدم "
لكنه فى الإثم غاص وما آفاق
فهوى الخسوف به وأغرقه المحاق
فى الحقيقة أنها ليست مأساة مسئول متكبر ، ولا مأساة شعب متسامح ، انها مأساة أمه لم تدرك مصدر قوتها فسود الأمر فيها إلى غير أهله0

استطاع المبدع الدكتور / جابر قميحه - بارك الله فى طرحه وقمحه – أن يمزج آهات الوجع الهمى بابتسامات ظرف مفارقاته ، استطاع أن يطل من قلوبنا ويتحدث بألسنتنا عن زمن راح أبطاله أدراج الرياح ولكن مازال المسرح معد والأحداث جاريه متشابهة تأتى بأبطال جدد لهم نفس الجينات القذره0

ناصر صلاح
( حرفوش المجذوب)

» الإقلاع في البحور السبعة - رائعة جابر قميحه
» الشعر " هذا الساحر "- 1
» بـيـن يـمـامـتـيـن - روح الشعر 2
» مقتطفات من الشعر
» الشاعر : أدونيس