الواقعية والكائن الطيني
· دراســـة في (نقوش على حجر الدهشة) · مجموعة : سليم عبدالرحمن سيد· ___________________________________- [1] الأدب الواقعي : مدخل
يذهب البعض إلى أن التيار الواقعي هو ذلك التيار من النقد والنقاد الذي يدرس الأدب باعتباره نتاجاً للواقع من خلال معطيات ومفاهيم حددها الفكر الماركسي وإن تعددت مسميات التيار الواقعي مثل النقد الاجتماعي والأيديولوجي أو اليساري أو الواقعي الإشتراكي .. هكذا لما ارتأى للنقاد والكتاب الذين عاشوا حلم الخروج وأغرتهم مطالب العدالة الاجتماعية في الفكر الماركسي على اختلاف فصائله .. لا شك أن مفهوم الأدب الواقعي يتجاوز كل المفاهيم الماركسية واليسارية إلى ألوان تقليدية أقل حساسية للفكر والسياسة .. فعلاقة النقد بالواقع أساسية وقديمة كما جاء في نظريتي المحاكاة عند أفلاطون وأرسطو ..
في رأيي أن الأدب الواقعي هو ذلك الأدب الذي يعبر عن أطروحات ومشكلات وموضوعات من واقع العصر بشكل فني فيجيئ مرآة لأحداث العصر من وجهة نظر الأدب وليس تاريخاً مجرداً كما يفعل المؤرخون .. وكما تجئ روايات نجيب محفوظ واقعية بالنسبة للعصر الذي كتبت فيه وربما واقعية الاستمرار لأن الأدب كثيراً ما يوجد فيه عنصر التنبؤ .. كذلك عبر تشارلز ديكنز (1812 – 1870) في معظم رواياته عن مشاكل الاستغلال والقهر من جانب ملاك الأراضي وأصحاب المصانع ورجال المال كما يتضح في روايته (أوقات عصيبة – وأوليفر تويست) ..
من الذين كتبوا الأدب الواقعي جوستاف فلوبير (1812 – 1880) الفرنسي الملقب " أبو الواقعية " حين كتب روايته الشهيرة " مدام بوفاري " و " كتاب التربية العاطفية " و " شجرة تنبت في أرض الخيانة " ...
[2] الكائن الطيني : رؤية
في التحليل النفسي : الكائن الطيني هو الذي يميل دائماً إلى الرجوع للماضي مهما بلغ من الكبر فجسده يتحرك في العصر الحالي بينما عقله دائماً يرجع إلى الماضي بأحداثه ودائماً هو كائن لديه نكوس وتجئ هذه الانتكاسة غالباً نتيجة لصدمة قديمة أو حديثة لها وقعها وتأثيرها الفعال .. إذن هناك حالة استرجاع يعيشها الكائن المنتكس بينه وبين نفسه أو تظهر في منطقة اللاشعور وتخرج كثيراً في بؤرة الشعور فتصبح في لحظات كثيرة لها حضور طاغ ...
يدلل لنا القاص سليم عبدالرحمن سيد في مجموعته (نقوش على حجر الدهشة) يدلل على صدق هذا التحليل بأنه صدر المجموعة بمقولة الكاتب الروائي الفرنسي " جوستاف فلوبير " (1812- 1880) تقول هذه العبارة : (بينما يواصل جسدي رحلته فإن أفكاري لا تفتأ تلتفت إلى الخلف وتدفن نفسها في الأيام الخوالي)
[3] الحجر والدهشة :
يدخل الحجر والأحجار بالنسبة للقرية في البنايات القديمة ويحظى باهتمام ... فمعظم البيوت الريفية الطينية كانت أساساتها القوية من الحجر ويتفاخر مالك المنزل بكم الأحجار التي وضعها في أساس حوائطه ولدينا في التاريخ المصري حلقة هامة أثناء الحملة الفرنسية التي اكتشفت خلالها حجر رشيد بما عليه من نقوش للغة الكتابة الهيروغليفية ..
في هذه المجموعة يتواجد حضور الحجر فعقل الصبي البطل يمثل حجراً منقوش عليه ذكرياته التي تدهشه في مرحلته الطينية الانتكاسية للماضي المفتقد والحجر هو الهدف الذي يغوص من اجله الأولاد الأعماق في قصة (حجر الماء) . والحجر هو الذي يدور ويمثل هدفاً لأعين الأولاد تركز عليه وتريد الوصول إليه . في قصة (الحجر دار) كذلك يبحث الأولاد عن الكنز في قصة (تحت الحجر) فهو في نقطة ارتكاز وهو يكشف الهدف الكنز فتجئ الصدمة للولد حين تلدغه في الحال عقرب .. والأحجار تتواجد على الجسر في القرى لتمنعها من السقوط أو الهدد قبل أن يتم تغطية الجسور بطبقات الإسفلت ..
[4] الموضوعــات :
تحتوي المجموعة على إحدى وعشرين قصة يقص فيها الكاتب عن القرية والطفولة وهي متوالية يمكن قراءتها متصلة أو قراءة كل قصة منفصلة فأسماء الأشخاص ثابتة والأماكن أيضاً رغم تنوع اللقطات والموضوعات .. هي مجموعة إذن تقص بدرجة كبيرة عن عالم القرية والطفولة الذي يحن إليه الكاتب (الكائن الطيني) .. تمثل لحظة الانتكاس فيها نقطة البؤرة فيرجع إلى طفولته وقريته وأصدقاؤه والبيت الريفي بتفاصيله وطقوس المحاصيل وطقوس اللعب . رغم ذلك تقف المجموعة موقف الوسط فهي تقص عن الأطفال من زاوية كبيرة .. ثم هي تقص عن القرية والأطفال جزء من القرية بما فيها من طقوس الزراعة ولعب الأطفال وطغيان شيخ البلد لذلك هي مجموعة قصصية عادية لها موضوعاتها ولا يمكن اعتبارها قصص للأطفال لأنه يستحيل إسقاط الرمز من قصص المجموعة .
تتداخل موضوعات هذه المجموعة . منها البحث الدائم عن الهدف أو الكنز . في قصة (مفتاح الباب) يبحثون عن الذرية لذلك يقصدون زيارة الشيخ فتح الباب ويواصلون بحثهم عن الكنز في قصة (تحت الحجر) ويبحثون كذلك عن الحجر في قصة (حجر الماء) و (قصة الحجر دار) ثم ينتقل الكاتب إلى موضوع الهتك والاغتصاب . في قصة (عنب الديب) حيث الولد هيكل مع البنت أفكار .. وفي قصة (حمير العنب) شيخ البلد يغتصب أرض أبو دربالة وابن شيخ البلد يأخذ حق دربالة في اللعب وفي قصة (الفخ المنصوب) الأولاد يصطادون العصافير في الوقت الذي يغتصب فيه أبو الحمد البنت هانم ولهذا الاغتصاب حل في القتل والسلاح في قصة (التعلب مات) ثم ينطلق إلى المكبوت لدى الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة وهي مرحلة قبل سن المدرسة وهي المكبوتات الجنسية كعادة أهل الريف فتأخذ مسألة العريس والعروس بعداً هاماً وتحظى باهتمام فغالباً يلقبون أي صبي بالعريس وأحياناً يخطبون له أو يقرأون الفاتحة أو يعقدون قرانا للأطفال في هذه السن وكثير من الأهالي أخذن البنات من حلقات اللعب إلى الزواج . وهناك من يمنع البنات عن اللعب مع الصبيان والعكس يتواجد هذا المكبوت في قصة (عريس وعروسة) حين تصنع له أمه عروسة من الكشك ودائماً تناديه بالعريس وتعطيه عروسته ليلتهمها . في قصة (الجري للمتاعيس) وبين مشهد زوج يبحث عن عروسته زينب فلا يجدها . في قصة (عنب الديب) يرى اغتصاب الولد هيكل للبنت أفكار ثم يتكرر الموقف في قصة (النحلة والدبور) فيرى اغتصاب أبو الحمد للبنت هانم وفي قصة (الفخ المنصوب) يرى اغتصاب فراج للبنت عطيات وحين تُحميه أمه في قصة (ام العيد) يداري عورته فتقول له : " والله كبرت يا عريس عقبال حموم العيد يا عريس " .
أخر موضوعات المجموعة تجئ دراما تسجيلية لبعض الطقوس الريفية مثل مشهد الدريس في قصة (فار الغيط) ولعب الولد بالزلط ليشعل النار في قصة ( حمير العنب – الحجر دار – على الجسر – الفخ المنصوب) هكذا تتجاور وتتعدد الموضوعات داخل المجموعة .
[5] البطولة والسرد :
يلعب السرد دور البطولة في هذه المجموعة وتساهم كذلك الموضوعات فالبطولة مقسمة بين السرد والموضوعات فالكاتب يسرد ويحكي عن القرية موفرا حرفة سردية دقيقة في تفاصيل القرية بكل أبعادها الزمانية والمكانية والطفولية بكل براءتها وقسوتها فهو ينهل من رصيد الذاكرة ويعب من بئر الذكريات وربما لا يعرف البعض أن مياه البئر متجددة فكلما أخذنا منها تجئ مياها غيرها جديدة من شقوق الأرض لذلك يستند الكاتب إلى المفردات والغناء أو العديد فتتداخل لغة السرد بين الفصحى والعامية وتجئ الجمل بسيطة التراكيب وتمثل الجملة وحدة منفصلة لأنها جمل قصيرة وغالباً تبدأ القصص في أغلبها بالفعل مما يعطي انطباعاً بأهمية الدراما للفعل أو دراما الفعل للانتقال إلى ما يلي في أربع عشرة قصة يبدأها الكاتب بالفعل مثلا (قفزت أمي – يرفع أبي يده – الحجر دار – يشد أبي جاموستنا – نجرى نسابق بعضنا – نقوم من النوم بدري – ترفع أمي الطبلية – نشمر أكمامنا – تقوم أم در باله من الصباح) فيخلق بذلك حالة من التشوق والانتباه فالبطل صبي لديه وعي لغوي بما يقوله فهو يحكي ويسرد بأسلوبه والكاتب يعتمد على أسلوب النوازيات للرمز حيث يتواجد عنصري القاهر والمقهور المغلوب على أمره مع قابلية ودلالة الرمز للبعيد كما يلي :-
القصة | القاهر | المقهور |
مفتاح الباب | الحمار العفي – نعمات – زوج أخت الولد | الحمارة العرجاء – أخت الولد – نعمات |
أم بلال | شيخ البلد – ظالم – أي ظالم | النخلة – الوطن |
حمير العنب | شيخ البلد – ابنه – أي ظلم | أبو دربالة – ابنه – ام دربالة – الوطن |
عنب الديب | هيكل – السمكة في المياه الغويطة | البنت أفكار – حبة العنب المهروسة |
الفخ المنصوب | الفخ – أبو الحمد | العصافير – البنت هانم |
الدبور والنحلة | الدبور – فراج | النحلة – البنت عطيات |
[6] البيئـــة :
تتواجد البيئة بشكل أساسي في هذه المجموعة لأنها بدرجة رئيسية تقص عن أحداث تحدث في القرية وتفرض هذه القرية حضورها كما تفرضه في كثير من المفردات القروية الخاصة كما يتداولها أهل هذه القرية غير محددة الاسم أو المكان لكنها واقعة على بحر يوسف .. من هذه المفردات : ( الجحش – الجرن – الدحديرة – يحرن – النورج – يدرس – المحراث – أم العيد – أبو القردان – أسماء الحيوانات – غيط العنب الشرقية – الجسر – حمير العنب – فار الغيط – تفركها – البتاو – بتاوة – الخضاضة – القت – وغيرها من المفردات ) .. كذلك تتواجد البيئة في غناء الأطفال لطائر أبو قردان ص 16 وغناء الأطفال في ص 68 وغناءهم أيضاً في قصة أم بلال للنخلة الكريمة .. ثم تتواجد أيضاً البيئة في طقوس الألعاب لدى الأطفال وطقوس الأحداث مثل زيارة الأولياء للتبرك والبحث عن خلفة الأولاد ومشاهد الدريس ومشاهدة اللعب .
هكذا تعايشنا مع عالم الكاتب في واقع القرية وأحداثها وهو يخلق لدينا في النهاية حالة من التشوق لباقي أعماله من الروايات والقصص حتى نضع أيدينا على حقيقة عالمه القصصي والروائي من خلال قراءتنا لمختلف أعماله القادمة ..
رمضان أحمد عبدالله