الذات المثقلة
· دراســـة في مجموعة أبجدية الشجن لسهيلة عزوني· _______________________________________________- - حينما تكثر الجراح تستدعي بعضها البعض فتتآلف وتصبح منتظمة في قلادة واحدة ترتديه الذات الإنسانية الباحثة عن نفسها ومكنون وجودها فتغرق هذه الذات الحائرة في أبجدية الشجن . ثم ما تلبث أن تقف هذه الذات مع نفسها لحظة أو لحظات تفحص وتقارن حياتها الحاضرة حين تتذكر ما مضى .
هذا ما تفعله الكاتبة سهيلة عزوني في مجموعتها القصصية "أبجدية الشجن" الصادرة عن دار أكتب عام 2009 الطبعة الأولى .
[1] الموضوعات :
1-1 الافتقاد : يسيطر على أغلب قصص المجموعة التسعة عشر موضوع الافتقاد أو الفقد . الافتقاد بمعناه النفس إنساني في (صهاريج الذاكرة) تعبر القاصة عبر اليوميات عن حالة الود التي كانت سائدة في الأسرة وتتمنى عودة هذا الود . تتطلع البطلة إلى هذا الفقد في (فتافيت القلب) فتتمنى وجود الأهل الذين رحلوا عن الحياة . الزوج هو ضلع من أضلاع الأسرة بل هو الضلع الهام في الحياة بالنسبة للذات الأنثوية . في " غزلان الأماني " الزوج موغل في السفر بينما الراوية تشتاق وتحن إلى يوم عودته وكلما أوغل في السفر أوغلت مشاعرها في الاشتياق وحين يعود لا يجدها .
إن هذه الذات الراوية تداوم البحث عن ذاتها في " البحث عن الحب " تقارن بين مر اسم الحياة والباردة مع زوجها وبين زوج صديقتها المريضة الذي يقرأ القرآن بجوار سرير موتها .
1-2 المعاناة والذكريات :
افتقاد الإنسان للحب وللآخر دليل على المعاناة لذلك ربما يعود إلى دفتر علاقاته الإنسانية بحثاً عن الحب لتعويض الفقد وحماية من السقوط في قصة (أبجدية الشجن) تعبر عن المعاناة التي تعانيها البطلة من جانب المجتمع عامة والرجل خاصة فتتحدث عن هذه المعاناة في تنسيق أبجدي يحتوي على 26 قصة داخلية . في "بلا عنوان " ترى سيدات الإعلان عن العطور والمساحيق فتقارن بينهن وبين سيدات في فلسطين اللائي يأكل الأسفلت لحمهن .
الفجوة في حياة الأنثى عميقة نظراً لتراكم الموروث الفكري ضدها . فالأنثى في " زوجة ثانية " تعاني من الوحدة واليتم والترمل فتركض نحو الرجل باحثة عن الاطمئنان . تتواصل معاناة الأنثى من سلطة الرجل في " الساعات الأخيرة " نرى امرأة قروية طامحة إلى الحب متمسكة بالقيم وتعتز بشخصها يحاول زوجها السيطرة عليها فيختار القسم الذي تدرس به بل يتمادى في التسلط فيختار لها الوظيفة . وليس الزوج فقط الذي يمارس تسلطه بل هي سلسلة متصلة من موقع الرجل سواء الأب أو الأخ والزوج . في "شمعة في مهب الريح " تستدعي الأنثى ذكرياتها حين جاء قاتل أو معتدي على الأب والأخ والزوج تقوم هي رغم تسلطهم تقذف الرمال في وجه المعتدي فيعمى ناظريه فتأخذ سلاحه وتقتله . لا تغيب الأحداث السياسية ولا الهم السياسي عن وعي القاصة فتتذكر ما يحدث في بغداد وتعبر عنه في " ثرثرة في سماء بغداد " فتصور في مشهد درامي منظر الدولارات الراقصة كل دولار يتفاخر بأصل موطنه ثم تفجعنا بمنظر جثث الأطفال الملقاة بلا جريمة ليس سوى تجرءوا ونظروا إلى الدولارات .
1-3 التمرد : بدءاً من الافتقاد مروراً بالمعاناة وصولاً إلى التمرد يمثل المحطة الثالثة في اهتمامات القاصة الجزائرية الأصل . حين يحب الإنسان شخصاً ويقنع بعواطفه تجاهه يغير نفسه كما تفعل الراوية في " زلزال مشاعر صغيرة " حين عدلت من جسدها وأنقصت وزنها وتمردت على تقاليد الأسرة . يأخذ التمرد بعداً غير شخصي كما نرى في " مشهد عربي " المقطع الأول نرى امتهان كرامة العرب حين يجبرونهم على إنزال سراوييلهم على شاشات التليفزيون . في المقطع الثاني تقرر فتاة أن تتمرد على هذا الوضع فترتدي حزاماً ناسفاً لتفجر به نفسها .
[2] أدب نسوي : مدخل
مع ظهور حركات تحرير المرأة في العالم التي تطالب بحقوق المرأة في كافة المجالات حتى وصلت إلى العصر الحاضر بمطالبة المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات ومع استمرار المطالبة تحقق الكثير من انتصارات وانتزاع لكثير من المطالب . وسط هذا الغمار ظهر مصطلح الأدب النسوي ومعه أيضاً ظهر النقد النسوي أو النسائي وهو يعني بالأدب الذي تنتجه المرأة. ظهرت كاتبات عالميات في هذا النوع رائدات يتهمن المجتمع أنه أبوي النزعة . يتحدث هذا الأدب عما تتعرض له الأنثى من ملاحقة وقهر فيطالب بإنصاف المرأة وجعلها على وعي بحيل الكاتب الرجل خاصة فيما يتعلق بالموروث الثقافي والأدبي وإبراز الكيفية المتميزة التي تم بها تهميش المرأة ثقافياً بسبب النوع الجنسي . من أبرز الكاتبات في هذا الاتجاه فرجيا وولف (1882-1941) وسيمون دي بفوار . يتوجه كثير من أتباع هذا الأدب إلى ما أسمته أيلين شوالتر بالنقد الجينثوي وهو النقد الذي يعني بإنتاج النساء من كافة الوجوه وأهم سمات هذا الأدب هي :-
1- تحديد نوع المادة الأدبية التي كتبتها المرأة وكيف اتصفت بسمة الأنثوية مع الأخذ في الاعتبار الأمور الشخصية والعاطفية والداخلية .
2- الاهتمام باكتشاف تاريخ أدبي للموروث الأنثوي .
3- محاولة إرساء صيغة التجربة الأنثوية المتميزة في التفكير والشعور والقيم وإدراك الذات والعالم الخارجي .
4- محاولة تحديد سمات لغة الأنثى والأسلوب الأنثوي الخاص بالكتابة وخصائص الصور والخيال وبنية الجمل .
تنطبق مفاهيم الأدب النسوي في هذه المجموعة نظراً لما يلي:-
1- الكاتبة أنثى لها ميزات وموروث ثقافي وعقلي وأدبي .
2- موضوعات المجموعة تتحدث عن الأنثى كذلك الراوية أنثى والبطلة أنثى .
3- ارتكاز الكاتبة على إبراز عواطف وأحاسيس الأنثى في كل قصة وتدخل إلى نفسية البطلة لتحلل مشاعرها ولغتها .
4- ركزت الكاتبة على إبراز قهر الرجل للمرأة وتحمل الأنثى وصبرها وبحثها عن الحب بمعناه الواسع الشامل .
5- اعتماد القاصة على تقنية تيار الوعي أو تيار الشعور القائم على تحليل الدوافع والنوازع وتحليل العواطف الشخصية .
6- المخاطب أنثى فالراوية البطلة تخاطب نفسها في حوار داخلي أو ما يسمى بالمنولوج .
[3] التقنية :
3-1 البناء:
تعتمد القاصة على ثلاثة أنماط للبناء الخارجي لقصص المجموعة مستخدمة ما يسمى بتيار الوعي للغوص في أعماق الشخصية للكشف عما بداخلها من مشاعر وعواطف على لسان الراوية البطلة . تتواجد أنماط البناء كما يلي :
أ- اليوميات تتبنى فيه الكاتبة أسلوب الحكي وبناء القصة على طريقة اليوميات أو مذكرات يومية . حيث تضع أيام الأسبوع داخل قصة كعناوين فرعية لكل لقطة في قصة (صهاريج الذاكرة) .
ب- المقاطع : تعتمد فيه الكاتبة على تقسيم القصة إلى مقاطع جزئية داخلية كل مقطع له عنوان خاص به . في قصة (زلزال ومشاعر صغيرة) مقسمة إلى 4 مقاطع وكذلك في قصة (أبجدية الشجن) المقسمة إلى 26 مقطع مرتبة ترتيباً أبجدياً وبجوار كل حرف كلمة تبدأ بهذا الحرف . قصة (زوجة ثانية) مقسمة إلى 4 مقاطع وكل مقطع له عنوان . قصة (اعترافات لرجل من ضياء) المقسمة إلى ثلاث مقاطع .
ج- اللوحة : هي قصص تعتمد على اللقطة وتكثيف الحدث والسرد واللغة لإعطاء لوحة ذات إطار محدد لكنه واسع المعنى والتأويل تتوافر اللوحة في قصص (مشهد عربي – ثرثرة في سماء بغداد – القاتل يعود دائماً لمكان جريمته – أسماء)
3-2 السرد واللغة :
تتبنى الكاتبة أسلوب سردياً مميزاً تعتمد فيه على التداعي أو الاستدعاء وتذكر الماضي موظفة التقطيع الشكلي للقصص مع التقطيع النفسي واللحظي للبطلة الراوية وكذلك عدم وجود الحدث المباشر لكل قصة لاعتمادها على تيار الوعي . تعتمد اللغة في هذا الأسلوب السردي على تدفق المشاعر والذكريات للكشف عن مكنون الشخصية وغالباً تأتي اللغة بدون ترتيب للأفكار فالعبارات والجمل متتابعة نفسياً دون اعتبار للترتيب الزمني واللغة قريبة أو متماسة مع لغة الشعر وتأتي دقة الوصف والجمل الممتدة أهم مزايا هذه المجموعة كما في قصص (صهاريج الذاكرة – بلا عنوان – زلزال ومشاعر صغيرة – أبجدية الشجن ) يغلب على لغة السرد أسلوب الأنا فالبطلة الراوية في أغلب القصص تروي بلغة الأنا . في باقي القصص تخاطب نفسها في حوار داخلي . الحوار في المجموعة قليل لأن الكاتبة اعتمدت على السرد بشكل كبير . يأتي الحوار باللغة الفصحى في (سنرحل) وبأتي الحوار مشاركا في السرد في قصص (صهاريج الذاكرة – فتافيت القلب – الحريق المضاد) .
[4] التداعي واللاحدث : رؤية
تعتمد الكاتبة على تيار الوعي هذا التكنيك له أبعاد فنية حيث يوظف أسلوب السينما الذي يعتمد على لقطات متفرقة من الانطباعات والمشاعر ويعبر عن القلق والتوتر النفسي وتيار الوعي أيضا قائم على استدعاء الماضي من حياة الإنسان وتحليل الانطباعات للوصول إلى تقييم للحالة الإنسانية . يعد الحوار الداخلي أو المنولوج أحد دعائم تيار الوعي . يخطأ بعض النقاد حين يؤسسون لهذا التيار على يد جيمس جويس (1882-1941) فينسبون إليه أنه صاحب تيار الوعي مع فرجينا وولف والكاتبة دوروثي رتشارد سون لكن الحقيقة كما يقول الدكتور لويس عوض في كتابه : في الأدب الإنجليزي الحديث الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1990 (جويس ليس مبتكر منهج المنولوج الداخلي بل هو مكملة ومبتكره الأول فرنسي مغمور إدوار ديجاردن صاحب قصة "لقد قطعت أشجار الغار 1887 وهي قصة خالية من الأحداث قوامها الأفكار والذكريات ثم جاء الثلاثة جويس وولف ورتشارد سون وطوروا وأسهموا في نشر هذا التيار . عندما جاء عام 1910 أعلنت وولف أن الطبيعة البشرية تغيرت وتؤكد على دور الكائن البشري الفرد والاحساس الفردي دور الفعل الفردي فحدث تحول تام في وجهة النظر الطبيعية واتجهت إلى الإنسان . لذلك تؤكد وولف على نورانية الحياة وإحساسها بقيمة عظيمة وأخلاقية لذلك يسعى تيار الوعي إلى تسجيل الانطباعات التي يتلقاها الشعور ويحاول تصوير اللحظة الحية التي تعيشها الشخصيات . يعتمد تيار الوعي في أحيان كثيرة على الحلم أو الغفوة وربما الكابوس ويكون الحلم هنا غير مباشر أو ما يسمى مستوى حلم الوعي وفيه يرتبط الحلم ببناء القصة من خلال تداعي الصور والذكريات دون التصريح بها حيث تتداعى الأحلام على الشخصية دون تدخل من الراوي كما نجد عند كتاب تيار الوعي في مصر - إدوار الخراط – محمد إبراهيم مبروك – محمود عوض عبدالعال – أحمد هاشم الشريف – محمد حافظ رجب ... تتبنى الكاتبة تكنيك تيار الوعي في قصص المجموعة فنجدها تحكي دون ترتيب فكري أو زمني أو حدثي لذلك ربما يلهث القارئ ليعرف الأحداث ثم يعيد ترتيبها وتركيبها مع نفسه للوصول إلى مدلول فنجد استخدامها للحلم في قصة (بلا عنوان) ثم تستخدم الحوار الداخلي في قصص المجموعة هنا نجد القاصة استخدمت تيار الوعي في قصص قصيرة في حين مبتكروه الأجانب استخدموه في روايات من هنا يمكن لأي قارئ أن يستقبل المجموعة على أنها رواية لأن عناصر رواية تيار الوعي منطبقة تماماً بصرف النظر عن العناوين الأساسية والعناوين الفرعية لأن الأحداث متصلة تصب في معين واحد وتنبع من رافد واحد فهي تتبنى الإنسان الفرد من خلال التركيز على الأنثى وأفكار ومفاهيم المجتمع عن الأنثى وما تتعرض له وما ترضى به مرغمة من أجل الأبناء وما يمارسه المجتمع من ضغوط وقهر مما يجعلها رواية خالصة تصب في معين الأدب النسائي أو النسوي .
[5] مراهنة على القارئ : استنتاج
هل الفن للفن أو بالأدق هل الأدب للأدب أم للأدباء أم هو لجمهور القراء الذي ينقسم بدوره إلى أكاديميين ونقاد ومثقفين وقراء عاديين أو ما يسمى بالمتلقي العادي أو رجل الشارع مع وجود النظريات التي تختلف فيما بينها حول هذا الصراع ودفاع كل فريق عن وجهة نظره . يأتي القارئ على رأس اهتمامات الفن والأدب فالقارئ أو المتلقي هو المرجو الأول وهو المعني بما يكتب فالأدب الذي ليس له جمهور وليس للجمهور هو أدب ميت منقرض لا محالة . فلو كان الأدب للخاصة لجلس المهتمون في غرف مغلقة ليفندوا ما يكتبون دون الحاجة إلى القراء بكل مستوياتهم الثقافية والمعرفية . من هنا تنبع نظرية الاستقبال واستجابة القارئ كما يقول رولان بارت " إن القارئ مشارك في العملية الإبداعية فلا يقف عند حدود الاستهلاك فهو يعيد إنتاج الدلالات والمكنونات وليس المهم هنا ما يقصده الكاتب أو ما يريد المؤلف قوله . لذلك نجد مستويات مختلفة من القراءات والتأويلات طبقاً لثقافة وقناعة وفهم واتفاق وقبول ورفض القارئ ". فنجد طبقاً لأقوال رولان بارت أن بعض الكتاب يراهن على وعي وثقافة القارئ ليضع القارئ في سياق ليس التذوق فقط بل إنتاج التأويلات . في هذه المجموعة تراهن الكاتبة على ثقافة ووعي القارئ فيما يلي :
1- استخدمت أسلوب تيار الوعي في قصص قصيرة وهو غالبـــا
أسلوب روائي وربما هذا إضافة وربما يختلف القراء في ذلك .
2- استخدمت تقنيات روائية من سرد ووصف بالتفاصيل في قصص قصيرة .
3- تعتمد على التكنيك السينمائي من تقطيع مشاهد واستخدام المونتاج وهذا يحتاج إلى قارئ يقظ متواصل الفكر ليعيد تركيب المشاهد وترتيبها .
4- الاعتماد على أسلوب اللاحدث المباشر . نعم إن هناك انطباعات وأفكار وأحلام وذكريات وعواطف تتداعي وعلى القارئ استيعاب هذا واستنتاج الحدث .
5- الاعتماد على اليوميات واللوحة والأحلام والبناء الأبجدي وتوظيف ترتيب الحروف واختيار عناوين فرعية ذات دلالة نفسية مما يظهر حالة التشتت النفسي . هنا يأتي دور القارئ هاماً ومتفاعلاً أي القارئ الذي يبحث عن أدب قصصي بالمعنى التقليدي فلن يجد هذان لذلك مما سبق قوله أرى أن الكاتبة نجحت في إشراك القارئ مستخدمة لغة حية راقية ومفردات وجمل نفسية لها معاني إنسانية .
[6]مآخذ على المجموعة :
رغم ما ذكر سالفاً إلا أنني أرى الآتي :
1- بعض الزيادات مثل :
- صـ 23 أول خمسة سطور زائدة ويجب حذفها لأنها تأتي مقدمة لا مبرر لها .
- صـ 33 أول سطرين يأتيان وجهة نظر تقريرية مسبقة .
- صـ 56 أول سطر ونصف زائد .
2- هفوات نحوية .
- صـ 51 تقول عن من والأدق عمن .
- صـ 70 تقول : يصبح كل يوم أكثر إلحاح والصواب إلحاحاً .
رغم ذلك نجحت القاصة في تقديم تقنية وبناء خاصاً وأبرزت وعيها الأدبي والثقافي واستخدمت لغة رائعة ومفردات ذات دلالة نفسية .
تمت بحمد الله
رمضان أحمد عبدالله
القاهرة : 7/2/2010