التآلف وخراب العالم
دراســـة في (حالات الروح) للروائي والقاص زكريا عبدالغني******************************************
للكاتب اثنا عشر كتابا منها تسع مجموعات قصصية وروايتان وكتاب عبر نوعية بالإضافة إلى الكتاب الذي بين أيدينا " حالات الروح " الصادر عن مركز الحضارة العربية عام 2006 للقاص والروائي زكريا عبدالغني .
[1] إشكالية التصنيف :
يضعنا الكاتب على أول ألسنة اللهب ويدخلنا في إشكالية هامة حيث يكتب على غلاف الكتاب كلمة " لا رواية " لندخل إلى مشكلة التصنيف فـ (لا) هنا نافية للجنس فتنفي عن الكتاب أن يكون رواية . والسؤال ماذا يكون هذا الكتاب ؟ هل هو مجموعة قصصيــة ؟ إذا كان كذلك لماذا لم يكتب على الغلاف مجموعة قصصية يترك المؤلف القارئ يخمن ويحدد جنس النصوص . ليراهن الكاتب من اللحظة الأولى على القارئ ويدخلنا بذلك إلى نظرية الاستجابة واستقبال القارئ التي تركز على دور القارئ الفعال في إنتاج النص وتأويله .
عندما يدخل القارئ إلى النصوص يجد أربعين نصاً بدون عناوين
لكن كل نص له رقم وهذا يضعنا في إشكالية اللاعنوان . في رأي أن كل نص هو حكاية أو قصة قصيرة لوجود وتحقق عناصر القصة القصيرة في كل نص .
[2] ضمن الكتابات الجديدة :
ينضم الكاتب إلى فئة الكتاب الذين يكتبون الكتابات الجديدة التي يتحكم مبدعوها في بناء النص . يكتبون بشكل غير تقليدي أو بشكل ما بعد حداثي . هي كتابات تعتمد على تقنيات النص المفتوح أو النص المكتوب كما يقول رولان بارت يستطيع القارئ أن ينتجه ويكتبه مع نفسه ويقتضي بذلك تأويلا متغيراً عند كل قراءة . إذن دور القارئ إيجابي نشط حيث يشارك في إنتاج النص وربما يتجاوز المؤلف . يكتسب النص تعددية تبتعد القراء وبذلك ندخل إلى قضية الكتابة التي تتداخل مع مفهوم النص وقضية موت المؤلف وإنتاج القارئ للنص والمؤلف يحل ضيفاً على القارئ وينطبق النقد الجديد أو الشكلاني على هذه الكتابات فهو يتسم بالتطبيق ويركز على الوحدة المتجانسة للصفة الفنية ويرفض الفصل بين الشكل والمحتوى كما أنه يعتمد على المخيلة والوحدة العضوية .
ونجد اللغة الأدبية في الكتابات الجديدة والنقد الجديد تتفوق على لغة العلم واللغة الحياتية والمؤسساتية فلغة الأدب تتســـــم بالمجازية والاستعارة والغموض والتجسيد والحيوية .
ينطبق جانب كبير من مقولة رولان بارت على هذا الكتاب في النقاط الآتية :
1- حضور كبير للخيال والأسطورة في كثير من القصص مما يضع القارئ في مواجهة الرموز الخيالية وعليه تأويلها رغم واقعية النصوص إلا أن المؤلف عمد إلى الخيال والرمز فيتعدد تفسير الرمز بتعدد القراء .
2- عدم وضع عناوين ليترك للقارئ فرصة يعنون كل نص على مزاجه الفني .
3- لم يضع عنوان لهوية الكتاب وتركه للقارئ .
[3] أطروحة الموضوعات :
3-1 خراب العالم : هناك حالة من الخراب تجتاح العالم فليس توازيا مع قصيدة إليوت الأرض الخراب . يحظى هذا الطرح باهتمام شديد لدى الكاتب . إنه طرح إنساني فكري لا يطرحه سوى المتأمل والمدقق إنه العقم المرادف للخراب أو المؤدي إليه. في حكاية (12) نرى حالة عقم تجتاح الجميع فلا ينجبون . ليس العقم بمعناه التوالدى بل هو عقم التآلف وعقم الفكرة . مدينة فارغة من البشر رغم امتلاءها بالبشر في حكاية (13) يدخل الراوي المدينة ورأسه مقطوع ولا يرعى إنتباه أحد فالجميع صامتون وماضون دون اهتمام . إنه الصمت وخلف هذا الصمت تأويلات عديدة .
لا يختلف عن الرجل الذي ينادي زوجته وأولاده في حكاية (14) وزملاء العمل فلا أحد يسمعه فيجد نفسه في صحراء . إنه الجدب الحياتي العام ينطلق هذا الراوي فيجد نفسه عريان والناس في مدينة ناقصي الأعضاء يضطر مثل غيره أن يبيع أعضاءه ليأكل في حكاية (15) بينما رجال القصر تزيد أعضاءهم حتى يصل إلى الحاكم الذي له مائة من كل عضو .
في حكاية (16) يعود نفس الراوي ليجد الواجهات نصف مهدمة والمدينة يسكنها الخراب ولا يجد فيها بشراً لكنه يجد الكلاب وحيات وثعابين فالخراب على المستوى النفسي والتخاذلي والبيولوجي يجتاح كل شيء . لا تبعد القرية عن أنياب الخراب في حكاية (20) يتغير كل شيء فيها إلى نقيضه فالعيون لا تدمع رغم مناظر الموت حتى الزهور أصابها الذبول رغم أنها على حافة الجدول . يذهب البطل إلى حافة الجدول تدمع عيناه فتنبت الزهور كأن الدموع هي المطهرة . هذه القرية هي نفسها في حكاية (21) كان أهلها نشيطين للغاية لا يؤجلون ولا يتركون أعمالهم فجأة تغيروا وتركوا كل شيء لفيما بعد حتى يصبح فيما بعد هذا فيروسا لا ينتهي . يزرع الفتى خريج كلية الزراعة في حكاية (23) أشجار ليمون لا تثمر حتى يزور قبر أبيه الذي صنعه من خياله يأخذ جزءاً من التربة يشمها فيدرك أن هذه البقعة تنمو فيها الأشجار وفعلا يزرع أشجار ليمون تثمر وكأن الحاضر خراب والنجاة في العودة إلى الماضي . في الحكاية (24) رجل سوف يكمل الأربعين عاما سوف يُحرق جسده طبقا لفرمان قديم. تتكون نار الحرق من أشجار الحقد والكراهية والملل والغيرة والحق والخير إنها تحرق وليس الفرمان .
3-2 البحث عن الذات : وسط الخراب ربما يسعى الإنسان للبحث عن ذاته . في حكاية ( يقود الراوي سيارته وسط أمواج همومه يتذكر أولاد الحرام الذين حرموه الترقية وتتابع على عقله مشكلات الدروس الخصوصية والحياة . الناس ضعفاء النفوس الخربة يرون الإنسان ببدلته وليس بقيمته في الحكاية (11) كما يراها رئيس مجلس الإدارة الذي ترك كل شيء في إدارته وركز اهتمامه على البدلة التي يرأس بها أول اجتماع لمجلس الإدارة . حتى يفقد هذه البدلة يرى تحقق ذاته في البدلة . يبحث الإنسان عن ذاته في صديقه . في الحكاية (17) يجادل الراوي صديقه في السكن بأن أحدهما كان في المكتب ويتحدث في التليفون هذا الشخص أيضاً يتواجد في الحكاية (18) مع شخص كسيح يسكن لكنه يرتبط به ويحبه لكنه يسيطر عليه فيقرر التخلص منه فيرى أن التخلص من صديقه يحقق ذاته فيطعنه بالسكين . في حكاية (26) يختل الإيقاع العام لخطوات رجل يطبب نفسه بضبط إيقاع قلبه حتى تستقيم خطواته ويفعل ذلك مع الآخرين فالقلب هو المحقق للذات داخليا وخارجياً . عندما يفشل الإنسان في تحقيق ذاته في الواقع يجنح إلى الخيال في حكاية (30) يرى الرجل بابا يعترض طريقه فينفض التراب عن الكراكيب فتلمع ويجد نفسه أمام مساحة خضراء . القهر لدى الحكام ربما هو طريق تحقيق الذات وربما هو طريق أي متجبر ليحقق ذاته في حكاية (28) يسحق أبو الرجال أحد الناس فيصفق الناس له ويستمر تجبره حتى يجلس مكان الحاكم فيأكل كل الحيوانات في البلدة حتى ينهي عليها يبدأ في أكل الناس ويلقى برؤوسهم في القصر حتى تخرج الألسنة من الرؤوس تقتله وتنبت بشراً جديداً . في حكاية (32) يبحث رجل عن ذاته في الجمال الحقيقي فيمن نفسه أن يجد امرأة بلا مساحيق أو ألوان حتى يجد امرأة بدوية الملامح يتبعها إلى المجهول .
3-3 التآلف : يظل التآلف حلماً يراود البشر . نجد في الحكاية (3) طفلة تعيش مع عجوزاً تغسل الموتى يمقت الأطفال هذه العجوز بينما الطفلة تتآلف معها حتى بعد أن تموت ترفض الذهاب إلى مكان حتى تعثر على عجوز أخرى وتجدها فتقيم معها وسط دهشة الجميع . في حكاية (4) يحاول الصبي البحث عن مصدر الصوت العذب حتى يجده طائراً ذا جناحين يلف الطائر الصبي بجناحيه فيتآلفان معاً ويطيران . في حكاية (5) يمرح الولد بين سنابل القمح وينشق القمر عن غجرية يعشقها الولد ويتآلفان وتأخذه بعيداً في باطن الأرض . في حكاية (22) يتشاجر سكان السلطنة دائماً يعرض البطل على السلطان خطة لإنهاء المشاجرات يجمع كثير من أوراق للأشجار ويعطي كل فرد كومة لفرز الأنواع وفصلها ينشغل الناس بهذا ولا يجدون وقتاً للشجار وبذلك يتآلفون . رغم أن الرجل في سن التسعين لكنه شديد التآلف مع محبوبته في حكاية (34) يظل وفياً لذكرها ولها فيتفوق ويرفض الزواج حتى يستخرج هيكلها ويعيش معه في الواقع أو خياله كان يراها في هذا الهيكل فهو متآلف مع ذكرى محبوبته . في حكاية (38) يرتبط الإنسان ويتآلف مع الطين فهو أصل الإنسان . ينحت هذا الرجل تمثالاً يشبهه في كل شيء حتى يأخذ الأولاد هذا التمثال إلى المتحف غير متآلفين مع التاريخ والماضي . في حكاية (40) رجل يحمل فأسه يضرب الأرض حتى يستخرج عظمة من عظام الإنسان . يواصل عمله حتى يستخرج كل عظام الإنسان يفتح الناس بيت هذا الرجل لا يجدونه هو بل يجدون الهيكل العظمي لقد تآلف الإنسان مع الهيكل العظمي وصارا شيئاً واحداً .
[4] طرح التقنية :
4-1 السرد : تأتي كتابات المبدع زكريا عبدالغني شديدة الإتقان شديدة الوعي فالسرد عنده يأتي متتابعاً متوحداً دون قطع في لحظة الحكي مع تنوع أسلوب السرد كالآتي :
أ – سرد مباشر يقص هو عن الآخرين في حكايات أرقام (1- 2- 4- 5- 6- 7- 9- 12- 13- 21- 23- 26- 27- 28- 31- 34- 35- 38- 39- 40) .
ب- سرد بلغة الأنا حيث يتحدث الراوي البطل عن نفسه في قصص أرقام (3- 8- 10- 11- 14- 15- 16- 17- 18- 19- 20- 24- 25- 29- 30- 33- 36- 37) .
تعتمد تقنية البناء عنده على تتابع الأحداث بعضها يخضـــع
للحلم أو بين الحلم واليقظة في قصص (8- 13- 19- 25- 30) بينما يعتمد على أسلوب التداعي أو تيار الوعي وهو قائم على استدعاء الماضي في لحظة توقف مع النفس في قصتي (8- 36)
4-2 اللغة والوصف : تحظى اللغة في الكتابات الجديدة بحضور
طاغ فاللغة في هذه الكتابات تعتمد على الخيال والمجاز والوحدة
العضوية . اللغة عند الكاتب هي أداة الصياغة وهي الوحدات التي تنقل القارئ من لحظة إلى أخرى في الوصف . يتمتع الكاتب بقدرات لغوية من بناءات وحرفة الكتابة عبر مشوار العمر فلقد نجح في تصوير لحظات التشظي النفسي والقلق كما نجد في قصص (10-11) وكذلك مقدرة في السرد الرائع يقول في قصة (40) صـ 142 يسحبه النوم إلى أعماق الليل وظلماته حتى توشك الشمس أن تعود سيرتها الأولى ، وعندما يكون سناؤها الباهت كلل الأفق يتمطى ويستيقظ وقد تفض عن جسده تعب الأمس ، ونداء عن أرضه يناديه ، وتراه دروب القرية والفأس على كتفه ، يعزق الأرض طول النهار والعرق من جبينه يتساقط قطرات فوق التربة حتى تظهر حافتها فيتنفس الصعداء ويمسح عرق جبهته بظهر يده ، هي عظمة الساعد ، ساعد الإنسان ، تتوالى ضربات الفأس حولها سريعاً حتى يستخلصها من الأرض .
4-3 الرمــز : يشغل الرمز حيزاً كبير وله حضوره الهام داخل النصوص وهذا يعكس حرفة الصياغة والفكر يتواجد الرمز كما يلي:
1- في حكاية (1) يرمز إلى الغرب وما يأتي منه . فالأغراب يأتون ومعهم لبن صناعي للأطفال حتى يصبح الأولاد من صفيح والبنات من قصدير .
2- في حكاية (15) يرمز إلى تضخم الحاكم وحاشية ليس من الأموال فقط بل هو تضخم في كل شيء حين بيع البطل أعضاءه مثل كل الناس ليأكل بينما الحاكم له مائه من كل عضو .
3- في حكاية (16) البيوت خربة ولا يوجد بها بشر بل فقط كلاب وحيات إشارة إلى حالة اللخبطة والارتباك . فالخراب يوازي النفوس والحيوانات بديلة عن الناس .
4- يتكرر الخراب في (21- 20) سواء في القرية أو المدينة .
5- في قصة (28) يشير إلى اغتصاب السلطة وسيطرة القهر على الشعوب ولابد من ثورة للتغير وهي قادمة أن لم تكن من الأحياء ستأتي من الأموات .
6- في القصة (31) يستخدم المسجد كرمز للصفاء الوجداني واللجوء إلى الله .
7- في قصة (32) يشير إلى الماضي والبداوة كأن الجمال الحقيقي
يكمن في الماضي والتاريخ القديم .
8- قصة (33 – 37) يشير إلى الحجرة التي لا تنفتح فهو الماضي المغلق الذي ورثه الأباء للأبناء .
9- في (38) يستمر في الرمز للماضي يستخدم الطين حين يصنع منه الولد تمثالاً يشير إلى التراث والماضي وأصل الإنسان .
10- في قصة (40) يشير كذلك إلى أصل الإنسان من الأرض حين يستخرج الإنسان الهيكل العظمي من الأرض ويصبحان واحدا .
[5] عالم غير مألوف :
إذا كان الإبداع هو الخلق والخلق هو إيجاد شيء من العدم . الخلق هنا بمعناه الفني وليس الوجودي الكوني . يأتي هذا الخلق من مخيلة الإنسان . إذن الخيال هو الواجد الأول والخيال يتقارب مع الأسطورة لأن الأسطورة حكاية خيالية قادمة من العدم والفاصل بينهما أن الأسطورة مغرقة في الخيال فهي خارقة للعادة وخارقة للمألوف أي خارقة للطبيعة . تلتقي الكتابات الجديدة مع عالم الخيال بل توظفه كأحد مكوناتها فاللغة في هذه الكتابات غير تقليدية الموضوعات وإن قدمت موضوعات شديدة الواقعية لكنها تجنح للرمز والخيال والتجسيد والتصوير وربما الغموض والمجاز والاستعارة . يتواجد هذا الخيال وما يسمى بالفنتازيا في هذا الكتاب .
- في قصة (4) يتطلع الولد إلى مصدر الصوت فإذا هو طائر بجناحين
كبيرين يتعلق الطفل بهما ويطيران سويا .
- في قصة (5) يتطلع الولد للقمر فتنشق باطن الأرض عن غجرية تأخذ الولد بعيداً في باطن الأرض .
- يتكرر هذا الخيال في القصص (6- 7- 9- 32- 34) .
- في قصة (6) أخوان الأول يعشق فتاة ويعزف على القيثارة لا يراه الناس بل يسمعون ألحانه من وراء النهر لأنه اختفى مع محبوبته والثاني يعشق همجية تأخذه بعيداً بعد أن تتزوجه .
- في قصة (7) ينتظر الناس مانحة الخلود يتصارعون حتى يفوز بها أحدهم . تعتصرة مانحة الخلود بجسدها . ينام الرجل تسعة أشهر وهي حامل حتى تلد .
[6]مآخذ على الكتاب : أرى الآتي من وجهة نظري
1- يوجد ملل وتطوير في السر (حيث يتحدث بالتفاصيل ويمكن تكثيف القصص (1- 21- 24- 27) وحكايات أخرى .
2- صـ 121 آخر ثلاثة سطور زائدة .
3- صـ 123 الفقرة الأخيرة وما قبلها يجب تبديل مكانيهما . ومع ذلك أعطانا الكاتب جرعة من الخيال والرمز عن حالة الخراب والعقم .
تمت بحمد لله
في 3/10/2009
رمضان أحمد عبدالله