التمرد والطموح
في رواية الضوء والظلال
· · - للضوء جاذبية وبريق تنجذب إليه العيون والفراشات والأشخاص المتطلعين إلى الاندماج في دوائره . حين يسقط هذا الضوء على الأشخاص والأشياء فتظهر الظلال أي ضوء هذا ؟! وأي ظلال التي تظهر ؟ إنه الضوء الذي يجذب للشهرة والمجد إنه ضوء البيزنس والانفتاح وظلال رجال الأعمال الذين يفتحون كل شيء "الضوء والظلال" رواية الكاتب المبدع محمد قطب الصادرة عام 2004 عن سلسلة الكتاب الفضي أحد إصدارات نادي القصة في مصر ..
[1] الأحداث :
تتلخص الأحداث في الفتاه سميرة خريجة الجامعة التي تقرر أن تبحث عن عمل رافضة نصائح الأم أن تنتظر تعيين القوى العاملة وهي الواثقة في قدرات جمالها وفي نفسها وقراراتها واثقة أن هذه هي أسلحتها رافضة أيضاً حبها الماضي أيام الجامعة لإبراهيم الذي يعمل في محل بقالة ملكاً لأبيه فهي لن تبني حياتها على المعلبات كما تقول لأمها . يفتح لها جمالها الشامل الأبواب الموصدة أمام ملايين من الباحثين عن عمل فتنجح من أول مرة بالفوز بفرصة عمل في مكتب سياحة . يدخلها هذا المكتب إلى عالم (البيزنس). عالم منفتح على كل شيء فهو عالم بلا حدود للمبادئ أو القيم عالم الربح والاتجار في العملة والمخدرات والاتصال المشبوه والذي سكت عن الكاتب ولم يصرح به عالم شديد الاتصال والتعقيد يعرفون أهدافهم بدقة تصعد فيه الخادمة إلى درجة سيدة أعمال . وتندمج فيه وتصبح سعدية هانم . إنه عالم يختلف تماماً عما يبدو فوق السطح فهو يعج بالأضواء الباهرة المبهرة تمتزج فيه النباتات الطبيعية والابتسامات والمجاملات والهدايا فبذلك يخفون العالم الآخر والذي أنقذت العناية الآلهية منه البطلة سميرة فلم تتورط مباشرة من وجهة نظر القانون لكنها تورطت من وجهة النظر الأخلاقية لأنها كانت حلقة الوصل بين معظم الأطراف فهي تحجز للمشبوهين وتوصل لهم الحقيبة وتذهب إلى حفلاتهم وتعرف أسماءهم بالفرد وتنفذ لهم ما هو أصعب وتخترق كل أبواب المكاتب لتحقيق أهدافهم حتى تنتهي الرواية على المكتب المشمع بالشمع الأحمر وصورة رجال (البيزنس) في الجريدة في تُهم المخدرات وتجارة العملة والاتصال بالسفارات .
[2] الموضوعات :
تسيطر على الرواية أربعة موضوعات تتجاور وتتقارب لتشكل معادلات موضوعية في رؤية الرواية لكن ربما يُخيَّل للقارئ أنه ثمة موضوع واحد الأوحد وهو البحث عن عمل هذا ما تحكيه الرواية. رغم ذلك يمكن استنتاج عدة رؤى فكرية هي التمرد والانفتاح والتربية الأنثوية والعناية الآلهية.
2-1 التمرد والطموح :
الجمال سلاح الثقة الذي يفضي إلى التمرد على ما هو قائم فيتولد الطموح كما يتجلى في شخصية سميرة البطلة فهي جميلة لديها ثقة في جمالها وشخصيتها فتتمرد على كل ما حولها فهي ترفض انتظار خطاب التعيين الحكومي ولهذا تنطلق مثل قطار يدهم المحطات فلا شيء يوقفه وتتمرد على الماضي الجميل بما فيه حب إبراهيم لأنه رمز له وجزء منه وهو المنتظر لتعيين الحكومة والذي ارتضى أن يقف في محل بقالة إلى أن يأتيه التعيين . تواصل سميرة تمردها على أسلوب أمها في القلق عليها فتأتي متأخرة دائماً وتنزل في أي وقت وتحمل الحقيبة التي لا تعرف ما بداخلها – وتذهب إلى مكان ضيق مظلم .. إذن هي ترفض كل ما هو قائم . وارتضت الطموح فهو محركها الأول وصديقها الأوحد فأغلقت قلبها خشية أن ينبت فيه الحب وربما يكون هناك طفل نتاج ذلك الحب فيوقف عجلات انطلاقها وزحف طموحها المستمر .
2-2 الانفتــــاح :
ربما يكون من مساوئ حقبة تاريخيه سادت في السبعينات في مصر فأعطت عبر هذه السنين والعقود مرار نتاجها وورثته لنا حتى يومنا وستستمر لعقود أخرى لأن لها من عوامل البقاء الكثير . وتتعامل الرواية مع الانفتاح على أنه النقطة المركزية التي تنطلق وتتلاقى عندها كل الخيوط وهو يعنى الانطلاق نحو الهدف والمصالح المشتركة فلا قيود أخلاقية فلديه نفوذ لفتح ما هو مغلق ومستعص ويفوت في الأحجار ويكسر الصخور ويفتت الحديد . من ثماره صعود طبقات الخدم وغيرهم إلى صفوة رجال الأعمال تمثل الانفتاح في النقاط الآتية .
(1) دخول البطلة سميرة عالم البيزنس وإن كان سلاحها الجمال والثقة والطموح والتمرد .
(2) دخول سعدية الخادمة طبقة الملاك وسيدات الأعمال وأصحاب البيزنس فهي شريكة للأستاذ صاحب مكتب السياحة في محل كوافير وترتاد الحفلات وهي التي طلبت منهم أن يدعوا سميرة التي كانت سعدية يوما تلبس فساتينها والتي كان يطلبها للزواج الزبال والمكوجي وحارس العمارة ومعلم القهوة.
(3) دخول المكوجي عالم تجارة العملة .
(4) انفتاح الأستاذ صاحب المكتب على مكاتب أخرى وتنفيذ حجز لشخصية مشبوهة دون معيار أخلاقي فالربح والمصالح أهم من أي شيء .
(5) انفتاح أصحاب البيزنس على السفارات كما جاء في أخر الرواية .
(6) هذا يؤدي إلى الانفتاح بمعناه السياسي وهو التطبيع مع ما هو خارجي ومرفوض حتى إن كان مشبوهاً فالمعيار ليس الانتماء للوطن أو قضاياه فهم منظومة متطبعة ومتآمرة مع أصحاب المصالح في تهريب الآثار وتجارة العملة وعلاقات بالسفارات . هنا لم يشر الكاتب إلى سفارات محددة ثقة في ثقافة القارئ للوصول إلى ما يقصده الكاتب .
2-3 التربية الأنثوية :
مصطلح الأنثوية تشمل معنيين متجاورين هما المقصود بهما في الرواية تلك التربية التي تقوم بها أنثى . وأيضاً تكون الأنثى هي الطرف المهتم به . فأنثى تربى أنثى . أم تربي إبنتها فهذا يلقى عبئاً على كلا الطرفين فالطرف الأول الأم القائمة على تربية ابنتها ترقبها العيون من أطراف عديدة تقيّم الأداء ويسيطر عليها عنصر القلق والخوف على الابنة فهي لن تطمئن سوى بالزواج كما تقول الأم للحاج أبو إبراهيم . جارهم وعشرة العمر معهم فهي ترفض ما تفعله سميرة وتنصحها دائماً وتتابع معها كل شيء وتعلق على كل شيء وتنتقد ابنتها . الطرف الثاني الابنة الطموحة فتمثل عنصر الانطلاق والتمرد على الانتظار للوظيفة وكذلك تخلق لنفسها عالم خاص خشية الانزلاق في عوالم مجهولة فهي تقدر تعب الأم من أجلها ولديها أمنيات وجمال خارق وقدرات فردية متميزة فتحاول ألا تُغضب الأم تارة وتحاول بالهدوء تارة لكن الأم ما تزال قلقة عليها وستظل .
2-4 العناية الآلهية :
هي الرؤية الخاصة بالكاتب التي وظفها دون صراخ أو مباشرة وتمثل الإنقاذ والنصيحة . يريد الكاتب أن يوحي بأن عناية الله تحمي وتنقذ الناس من الانزلاق وتتمثل عناية الله في المواقف الآتية :
(1) عناية الله أوجدت لإبراهيم محل بقالة ملك أبيه ليعمل به فأنقذته من الانتظار سنوات وسنوات لخطاب التعيين الحكومي.
(2) هي التي أنقذت الأم من افتراس المدرس الذي حاول أن يتمكن منها . لكن في لحظة انفراج آلهية خرج المدرس في هدوء .
(3) هي أيضاً فتحت لسميرة فرصة العمل دون أن تتورط بشكل قانوني وحفظتها من الانزلاق .
(4) هي التي أوجدت المرأة العجوز في بداية طريق سميرة تنصحها أن تحافظ على نفسها لأنها حلوة ومطمع لكل فرد .
(5) أوجدت لسميرة رجلاً ينقذها ويحجز لها تذكرة لرجل مشبوه وهو أيضاً نصحها في الحفل أن تغادر لتحافظ على نفسها .
[3] الســــرد :
تعتمد حرفة السرد لدى الكاتب المتمكن من أدواته الفنية على أسلوب الانسياب أو التدفق فلحظات الحكى متتابعة دون قطع او فصل معتمداً في أحيان كثيرة على الاسترجاع للماضي فالماضي يأتي من خلال استرجاع الشخصية لموقف من خلال الذاكرة أو الفلاش باك . تلعب اللغة دوراً هاماً في هذا التتابع . فيركز الكاتب اهتمامه في رسم صورة المواقف أو الشخوص ليعطي لنا دلالة قادرة على توصيل ما يريده من أفكار ومفاهيم ويجئ السرد بمثابة البطولة العليا للعمل إلى جانب بطولة الموضوعات وبطولة الأشخاص حتى لو كان المشهد الروائي طويلاً فلا تمل من شدة وقع العبارات وبراعة الرسم والحرفة يقول في صـ 88 .
- خرجت الآهات تفقأ حركات الليل .. لا يعيبها أن تصنع يومها ذكريات محببة تنغرس في الآتي من الأيام .. فلماذا تسحب الأم الماضي وتنسى اليوم ؟؟ لماذا تكدر فرحة القلب وتتعب الوجدان وتصر أن تظل لابدة في حضنها للأبد .. ؟؟
[4] الحــــوار :
تعامل الكاتب مع الحوار بنفس مستوى الاهتمام كما في السرد من حيث اللغة فاستخدم اللغة الفصحى مع كل شخصيات الرواية . فيجئ الحوار لديه فاعلاً في الموقف الدرامي متفاعلاً معه فهو ليس حواراً عادياً إنه المساهم في المواقف بالجدليات والمناقشات والاحتجاج فهو يجسد في لغة مناسبة ما يرمى إليه . هنا يعلن الكاتب انضمامه لصفوف الروائيين الذين يكتبون حوارات شخصياتهم باللغة الفصحى لكنه لا يغفل مستوى الشخصيات .
يجئ حوار إبراهيم مع سميرة في صـ 10 تجسيدا لما نقول
خذي غضبك عني .. فقد آلمني طول اليوم .
وتضحك – أنا لا أعير غضبي لأحد .
ويتألم – أعيريني لوجه الله يوماً بسمة .
وتبتسم – بعينيك الاثنتين .
ويتودد – هما لك . وفوقهما القلب
وتحتد – خل قلبك لك .. وانتبه فالحاج قادم .
ويختلس – إنها أمينة الحاج
وتعترض .. لا يشغلني إلا العمل .
ويترحم – ما أحلى أيام الجامعة !
وتختلج – لا تذكرني
ويتمنى – ليتنا رسبنا
هذا سجال حواري درامي بحرفة سنين عمره ومهارة الكاتب فهو لا يصرخ ولا يباشر لكنه لديه قالب فني يصب فيه ما يشاء .
[5] التقنية :
تتكون الرواية من اثنين وعشرين فصلاً متتابعة بطريقة الأرقام دون عناوين للفصول يعتمد الكاتب على تقنية السرد المباشر التلقائي مع استخدام أحياناً طريقة الفلاش باك أو الاستدعاء الاسترجاعي لمواقف من الماضي الذي يشكل الحرفة الثانية إلى جوار السرد المباشر المتدفق . يمكن رصد تقنية الفلاش باك في المشاهد الروائية الآتية .
(1) البطلة سميرة حين تتذكر مواقفها مع إبراهيم في المذاكرة ومشهد الشاي الذي وضعت فيه ملح ثم تتذكر خروجها مع إبراهيم وموقف مشهد السينما والمصيف مع أسرتها وأسرة إبراهيم تتواجد هذه المشاهد في صفحات صـ 10 صـ 35 إلى 39 ثم صـ 68 إلى 73 .
(2) مشهد المدرس مع الأم حين كانت سميرة في الابتدائية الذي حاول لولا مقاومة الأم صـ 75 إلى 78
(3) مشهد تذكر سعدية الخادمة التي كان يهواها الزبال وحارس العمارة والمكوجي ومعلم القهوة والتي علا شأنها وأصبحت من سيدات الأعمال صـ 108 إلى صـ 110
[6] بطولة الكاتب :
ربما يقول قائل إن البطولة في الأعمال القصصية والروائية تكون للشخوص أو الأماكن أو اللغة لكن هناك بطولة للكاتب لا تقل أهمية عن البطولات سالفة الذكر فالكاتب هو أبو الفكرة وعقله مسرح أحداثها وفكره صاحب تقنية صبها في الإطار الفني وثقافته وعقله قاما بالتخطيط وتسيير الحركات والدراما ورسم الشخصيات وكذلك قامت معرفته الفنية بالمراجعة والحذف حتى وصل العمل إلى شكله النهائي هذا ينطبق على كل الأعمـال الإبداعيــة .... لذا أرى حتما الحديث عن بطولة الكاتب في هذا العمل . تجئ بطولة الكاتب هنا موفقة لأنه نجح في تحقيق ما أراد وتتمثل بطولة الكاتب في النقاط التالية :
(1) في السرد واللغة .. أجاد الحكي والسيطرة على خيوط الأحداث وتوجيه كل خيط في الاتجاه الذي حدده مستغلاً في ذلك تراكيب لغوية موفقة بشكل فني وجمالي فله من الخبرة ما يمكنه من ذلك فاللغة تسير بلا منحدرات رقراقة لا تعنت فيها ولا اصطناع .
(2) رسم ملامح الشخصيات .. لقد وُفق الكاتب في رسم ملامح الشخصيات التي أوجدها داخل الرواية فلقد جسّد بلغته ومقدرته شخصية سميرة وصوّر الطموح والثقة وكذلك جسّد بقوة قلق الأم على ابنتها وكذلك جسّد شخصيات البيزنس في إشاراته إليهم وإن لم يعطهم أسماء حقيقية وأيضاً شخصية الصاعدة الخادمة إلى صفوف المجتمع الراقي .
(3) المعالجة الفكرية للموضوع . على الرغم من أن الموضوع قديم فالبحث عن عمل والدخول في عالم رجال الأعمال وإدانة فترة وسياسة الانفتاح والتطبيع وجرائم تجارة الآثار والعملة والتعامل مع السفارات هذا كله موضوع أو موضوعات قديمة الطرح فنياً وكثير من الأعمال تناولت هذه القضايا إلا أن الكاتب نجح في المعالجة الروائية لهذه القضايا بأسلوبه هو وطريقته اللغوية الماهرة فلم يصرح ويصرخ مباشرة كالآخرين لكنه امتاز وتميز بفنية المعالجة حين اختار بين السرد المباشر والفلاش باك كما سبق القول كذلك اعتمد على المشار إليه في الرواية أو المسكوت عنه وهو غير المصرح به فلم يحدد السفارات المشبوهة فلم يذكر مثلاً أنها سفارة إسرائيل أو أمريكا ولنا أن ندرك إنها أي سفارات عدوه وكذلك لم يذكر أسماء مكاتب سياحة أو أسماء رجال الأعمال ولم يذكر اسم مدرس الابتدائي الذي حاول اغتصاب الأم هذا كله أشار إليه وهو يُعد بمثابة المسكوت عنه والمفهوم غرضه ودلالاته في الرواية .
تمت في يوم 9/8/2008 رمضان أحمد عبدالله