التجلي والتدني
· · · - عندما يمتطي المبدع زورق الإبداع ويجول به في غمار البحار نجد إنتاجاً وفيراً في خضم الإصدارات حيث صدر للكاتب أحمد محمد عبده أربع مجموعات قصصية أما في مجال الرواية له رواية مكاشفات البحر الميت التي نحن بصدد القراءة فيها . أيضاً أصدر ثلاث مجموعات للطلائع . هذا يعطينا انطباعاً أن الكاتب متنوع بين القصة والرواية . كذلك هو حاصل على عدة جوائز متنوعة . يمتطي الكاتب ظهر اللجة في روايته " مكاشفات البحر الميت " فتظهر تجليات رائعة في اللغة والرمز وحضور الأضداد . من هنا نبدأ الانطلاق على متن زورقه .
1- تجليات الأحداث :
ينفتح المنقلب الأول في الرواية على صوت القطب وهو يتلو التراتيل لابن حتحوت الراوي الذي يرى في منامه أنه يركب فحلاً يناديه الصوت وهو خارج إلى خلوته بأنه سوف يسافر في الملكوت الهم زاده والحوت مطيته . يصلي ركعتين بينما يستمر الصوت . يتهمه قومه بأنه كشف سترهم وأبرز عوراتهم باعتباره الفحل الوحيد بينهم فيقررون ربطه في شجرة نبق لمدة خمسة وعشرين عاماً هكذا يرى في منامه .
يغفو مرة أخرى فيأمره الصوت أن يتوجه إلى المصلى فيجد رجلين يقدمان له كأساً من لبن ليؤهلانه للطيران في الهواء والسير فوق الماء . يطرحانه أرضاً فيرى بجواره كيس قماش أبيض شفاف داخله ما يشبه البيضة نصفها أبيض ونصفها الآخر أسود يأتيه الصوت هكذا تكون عاينت الملكوت وشاهدت الخلقوت .
- في المنقلب الثاني يبحث بن حتحوت عمن يقوم بدوره في الخلوة والدكان . ينطلق في طريقه بينما يشيع القوم عنه أقوالاً . يتحدثون عن حمل نساءهم وبناتهم ويُبرّأون ساحته . تغني له النساء أن يعود إليهن لأن رجالهن عاجزون . تعفر النساء أرجلهن بتراب المقابر ثم ينفضن التراب تحت أرجل أزواجهن.
- في المنقلب الثالث يرى في غفوته فوارساً من الرجال الأشداء يفتكون بالسباع والأسود لكنه يرى فجأة رجالاً مكسوري الرقاب لأن رجولتهم منزوعة منهم وتؤكد نساءهم ذلك فهن شبقات راغبات مشجعات فائرات والرجال اكتفوا بمشاهدة الصور العارية على شاشات المحمول .
- في المنقلب الرابع ينطلق في طريقه فيقابل شخصاً يبحث لبقرته عن فحل في بلدة مجاورة . تقابل الراوي بن حتحوت امرأة تفتنه فيقع معها في الخطيئة ثم يحط سرب من النحل على جسد امرأة أخرى يحاول الفرسان أن ينزعوا النحل من فوقها يعترض طريقهم مصارعي الثيران . يجدد وضوءه ثم يتمتم بالدعاء لله أن يحفظ النخوة في أصلاب الرجال .
- في المنقلب الخامس يكمل بن حتحوت مسيرته في البحر حيث يرى مخلوقات متنوعة ثم يعبر السهول والوديان يرى على الشاطئ غجرية يواقعها خنزير بينما الرجال يلطمون ويصرخون يتعقب فارس الخنزير لكن الخنزير يحتمي بمواقع حمام الحمى .
- في المنقلب السادس يدخل بن حتحوت البحر الميت يقابل مومياءات ويلاحظ أن المنطقة كلها جدباء ويجد أيضاً صالات ودهاليز ومكاتب وتحف ومختبرات يطوف عليها منها البيولوجي والأنثروبولجي والكيميائي . تخرج من المومياءات إنبعاثات ضوئية تخترق دماغه فيقع مغشياً عليه بعد أن ينفتح في رأسه جرح ثم تأتيه نتائج التحليل أنه إنسان فاقد الأهلية .
- في المنقلب السابع تنفتح له الأبواب في الأراضي السبع للبحث عن قرن الحوت الأعور الموصوف لعلاج أمراض الفحولة يدور حوار بينه وبين الشيخ والحاخام والقس في المسجد حول أسباب انتزاع الذكورة مثل التعاليم المتوارثة من الآباء للأبناء والصور العارية والكليبات على شاشات التليفزيون والتليفونات المحمولة . بعد ذلك يجد خنازير قامت من فوق ظهر معيز تقضم هذه الخنازير ما بين أفخاذ الرجال تلوكها ثم تتفلها فتلقفه الكلاب بدورها تلوكه ثم تتفله لتلتقطه القطط تلوكه ثم تتفله لتنكب عليه أكوام النمل وتجئ أسراب الصراصير فينصرف النمل وتجئ الفئران فتفر الصراصير هاربة .
2- تجلي العقم والخراب :
يعد العقم هو الموضوع المسيطر على أطروحات الرواية فالعقم المؤدي إلى الخراب . العقم هنا بمعناه البيولوجي والجنسي الذي أدى إلى موت الفحولة وانتشار اللارجولة . فالعجز هنا ضارب جذوره في أعماق البشر الذين يتهمون الراوي أنه كشف سترهم وأنه الفحل الوحيد لذا يتهمونه في حمل نساءهم وبناتهم. الرغبة قرينة العجز فلا يقف العجز عند النوع الجنسي لكنه يتعداه إلى القدرة والسلبية العامة . يرى الراوي الرجال مكسوري الرقاب والنساء شبقات فائرات تردد إحداهن أن جارهم ضرب زوجها على خده الأيمن فأدار له الزوج خده الأيسر وحين جادلته أخبرها أنه ينتظر عند النهر أن تجئ جثة ضاربة . إنه التواكل والتخاذل . يحط سرب من النحل على جسد امرأة تتمرغ في التراب يحاول الفرسان إنقاذها لكن الخنازير كلبشت في أرجل الخيول فينكفئ الفرسان على الأرض ليكرس بذلك وجهي عملة الهزيمة وهما المآمرة والفشل . على الشاطئ يواقع الخنزير امرأة دون مقاومة منها أو من أي أحد أخر فقط يأتي الرجال يلطمون ويصرخون فالراوي يكمل مسلسل الانهزام وشبق النساء وعجز الرجال . لكل ما سبق من عجز يبحث الراوي عن قرن الحوت الموصوف لعلاج الفحولة يأتي تفسير رجال الدين متمثلاً في الشيخ والحاخام والقس بأن سبب هذه الحالة هو المتوارث من الآباء للأبناء من تعاليم ووصايا وإغراق الرجال في مشاهدة الكليبات العارية على شاشات المحمول والتلفاز ليضع لنا الراوي والكاتب سبباً لحالة العقم والسلبية والخراب .
3- تجلي التقنية :
3-1 السرد و البنـــــاء : يعتمد الكاتب على السرد المباشر المتدفق الجمل الذي تأتي فيه العبارات متتابعة . يأتي هذا السرد بلغة الأنا فالراوي هو المتحدث دائماً في روي الأحداث مع تداخل الحوار القليل في السرد فالكاتب أدمج السرد بالحوار بلغة عالية الدقة كثيفة الوصف مما نستنتج منه مقدرة الكاتب اللغوية . أما عن الحوار فهو قليل الوجود نظراً لسيطرة السرد ويأتي البناء متتابعاً من سبعة منقلبات بدلاً من فصول وكل منقلب له عنوان . كذلك يتداخل مع السرد الغناء التراثي من جانب النسوة .
3-2 اللغـــة :
تحظى اللغة لدى الكاتب باهتمام كبير لكنه يركز على الصور الوصفية المعبرة عن المشهد الروائي الطويل . وتحظى لغة التراث عنده بحضور هام فنجد حضور التراث الأسطوري مثل عشتار وعشتاروت وهما آلهتا الخصب والنماء في الحضارة الآشورية. أيضاً توجد ألفاظ من التراث القرآني مثل كهيعص التي يقوم النص بتحليل حروف على نسقها في صـ 31 . أيضاً يستخدم لغة التراث الشعبي في الغناء صـ 35 . أما عن حضور المفردات الصوفية فهي تأخذ مساحة كبيرة في الرواية وتحديداً في المنقلبين الأول والثاني حيث نجد 53 مفردة استخدمها 130 مرة كما يلي :
1- الخلوة استخدمها عشرين مرة .
2- الملكوت استخدمها ست مرات .
3- الزاد استخدمها خمس مرات .
4- الغفوة استخدمها خمس مرات .
5- مفردتي – المواجيد – مدد استخدمهما خمس مرات .
6- مفردات – الوصول – الكرامة – يا موصول – المحصول – اليقين استخدم كل كلمة ثلاث مرات .
7- مفردات – التهاليل – التسابيح – الزواد – واصل – الرجفة – رعشة – المعجزات – القيد – الرهبة – الأوراد – الحصول – الوصول الحاصل – المعاينة استخدم كل مفردة مرتين .
8- مفردات – تنزَّل – تلاوة – البرهان – الركون – مناداة – مناجاة – الوصل القطب – الاستجابة – المغفرة – الروح – الكرامة – رعدة – الرعشان – الرجفان – الناموس – لا تقطع – مقيد – يا واجد – تتهجد – تبتل – أحفظ الدافع – الروافع استخدم كل كلمة مرة واحدة ... نظراً لوجود هذه المفردات الصوفية يشك القارئ أنها رواية صوفية ثم ما يلبث أن يدرك أنها رواية واقعية .
4- واقعية أم كتابة جديدة :ينضم الكاتب إلى الكتاب الذين يكتبون بشكل غير تقليدي أو ما يسمى بالحداثي فهي كتابات تعتمد على تقنيات النص المفتوح أو المكتوب كما يقول رولان بارت " هو نص يستطيع القارئ أن ينتجه مع نفسه ويقتضي بذلك تأويلاً متغيراً عند كل قراءة . وبذلك يكتسب النص تعددية بتعدد القراءة " ينطبق النقد الجديد أو الشكلاني على هذه الكتابات فهو يركز على الوحدة المتجانسة ويرفض الفصل بين الشكل والمحتوى كما أنه يعتمد على المخيلة والوحدة العضوية . تتفوق لغة الأدب في هذه الكتابات على لغة المؤسسات فلغة الأدب تتسم بالمجازية والاستعارة والغموض والتجسيد ومع ذلك تتعامل هذه الكتابات وتعالج موضوعات شديدة الواقعية فهي تختار موضوعاتها من الواقع لكنها تجنح إلى توظيف الرمز والخيال بذلك تسمى كتابات جديدة ورغم تلك التسمية هي كتابة واقعية . ينطبق هذا على هذه الرواية فيما يلي :
1- الخيال الذي يسيطر في طريقة بناء وسرد الأحداث .
2- التراث الديني والشعبي والصوفي الموجود داخل الرواية .
3- العنونة التي أتبعها الكاتب حيث استخدم كلمة منقلب بدلاً من فصل .
4- الرمز واللغة الذين استخدمهما الكاتب .
5- واقعية الموضوع الذي تطرحه الرواية .
5 - الاستقبال واستجابة القارئ : تركز هذه النظرية على دور القارئ الفعال كذات واعية في إنتاج النص . جاء الاهتمام بالقارئ كرد فعل على إهمال السياق الخارجي والتركيز على النص ذاته أو ما يسمى بنقد التلقي والاستقبال ومن هنا كان الاهتمام باستقبال النص يستتبع الاهتمام بالقارئ . ينقسم القراء إلى قسمين :
( أ ) قارئ مُفترض .
(ب) قارئ حقيقي .
القارئ المفترض هو من اختراع الناقد فهو آلية تساعد الناقد على شرح النص وتفسير آلياته وهو كذلك الشخص المروي له وكذلك يوجد القارئ المضمر والقارئ المثالي والقارئ المستهدف أو المقصود وأخيراً جمهور المؤلف القارئ الحقيقي هو الذي يقرأ النص ومعه يصبح الإنسان مجالاً جديداً للنقد الأدبي . هنا نرى كثيراً من التشابكات أهمها هل يقوم القارئ بإسقاط اهتماماته على النص أم أن النص نفسه يفرز هذه الاهتمامات في القارئ ؟ وهل السياق الاجتماعي يملى القراءة والاستجابة أم الأيديولوجيا والتحيز السياسي أم الحالة النفسية أم هي الكفاءة المكتسبة ؟ وكذلك أيضاً هل المعنى في النص أو لدى القارئ أم عند المؤلف ؟ كل هذه القضايا تتشابك في نظرية الاستقبال واستجابة القارئ . لذلك يقوم المؤلفون أصحاب الكتابات الجديدة بالمراهنة على القارئ . نجد عند المؤلف في هذه الرواية مراهنة على القارئ فيما يلي .
1- استخدام توطئه قبل بدء الرواية لتضعه في سياق فكري مفتوح التفسير من رموز دينية وتاريخية .
2- خيال بناء الأحداث .
3- الرموز والتراث والدلالات للعبارات والجمل .
4- استخدام أسلوب المزج بين السرد المباشر بلغة الأنا والحوار والتداخل عبر الوصف وسرد على لسان الأخر مثل القطب وبعض النساء .
5- أسلوب طرح ومعالجة الموضوع على الرغم من واقعيته وسهولته .
6 - تجلي الرمز والتراث : للرمز حضور هام في الرواية فعنوان الرواية نفسه به رمز . فالبحر الميت = الحياة المغلقة أو المحددة . وحين نفرد مظلة التأوييل بشكل أوسع نجد أن موقعه الجغرافي في الشرق الأوسط وهي منطقة نزاع عالمي منذ أن وطئت قدم الاستعمار وكذلك يستخدم الكاتب نظرية النشوء والتدني ويعمد عليها كثيراً خاصة في التوطئة قبل منقلبات الرواية ويختم بها أيضاً المنقلب السابع – نسبح بالتفاصيل في عالم الرمز لدى الكاتب .
- التوطئة صـ9 يستخدم الآتي .
- العمالقة أو العماليق أصحاب الحضارات الأولى من بابل وأشور وفراعنة .
- قطعان القطط = خلفاء العمالقة
- المحمية = الأرض
- الهنود الحمر = أصحاب الأرض الأصليين .
- الفهود البيض = المغتصبين .
- مملكة أكثر دناءة ودنوة = مملكة المغتصبين آكلي الحقوق
- النمل والقمل والصراصير = قوم أكثر دناءة من الذين قبلهم .
* في المنقلب الرابع والسابع نجده يستخدم الآتي :
- الخنازير = ربما اليهود أو المغتصبون المعتدون على شرف الناس .
- مصارعي الثيران صـ 56 = ربما هم المتآمرون الذين يفشلون محاولة الفرسان الإنقاذ .
- الفرسان صـ 86 = الشهداء
- اللافحولة صـ 42 = اللارجولة أو اللاكرامة .
- صـ 47 يقول : هذا العالم مفاعل نووي وامرأة والمحصلة يسمونها قنبلة يشير إلى سيطرة الأنثى وتطلع الجميع نحوها ويشير أيضاً إلى الانفجار المنتظر بسبب اللارجولة أو اللافحولة
- الحيتان والأسماك والقراميط = الناس وأصناف البشر
- قرن الحوت وعلاقته بالرجولة = رمز القوة
- يتجاور الخيال مع الرمز فالكاتب اعتمد على الخيال فالموضوع نفسه خيالي وأيضاً يورد أسماء عن أماكن وأنواع وممالك خيالية رمزية أما عن التراث فهو يتواجد على المستوى الديني والمفردات الصوفية وأيضاً على المستوى الشعبي يتمثل الديني في بعض الآيات القرآنية وطقوس الوضوء والصلاة . وكذلك الأحاديث النبوية خاصة في المنقلبين الأول والثاني .. أما عن التراث الشعبي يتمثل في صـ35 و 36 جاء في شكل غناء شعبي وإن كان من خلق وابتداع الكاتب .
7 – تجلي الأضداد : تدخل الأضداد حلبة الصراع فكل ضد يصارع ضده أو يتشابك معه في علاقة جدلية للبحث عن الذات كما يلي :
1- الرجل ضد المرأة من المفترض أنهما عنصر الوجود لاستمرار الحياة هذا الاستمرار مرهون بالتآلف الوجداني والحياتي لكننا نجد تضاداً لتخاذل أحد العنصرين وهو الرجل عن أداء مهمته بل زالت كفاءته . فالرجال قضمت الخنازير ما بين أفخاذهم فأصبحوا عقيمين . يسرى في عروقهم العجز والعقم بينما النساء فائرات شبقات يتفجرن أنوثة بينما خذلهن الرجال فيأخذن جانب الضد مع الرجل الذي خذل أنوثتهن فالنساء يهتفن لابن حتحوت أن يعود لأنه الفحل الوحيد ويتحدثن عن خيبة أمالهن في الرجال .
2- العمالقة ضد القطط : العمالقة هم الأصل مثل الهنود الحمر أو الأبورجين وهم اليعسوب (ذكر النحل) أي هم المملكة العليا الذين تقهقر حالهم وقضت عليهم المملكة الدنيا من القطط والصراصير والنمل والخنازير لقد ازداد الصراع والتضاد فالممالك العليا انقرضت وحلت محلها ممالك دنيا وممالك أكثر دناءة ودنوا .
8- مآخذ على الرواية :
على الرغم من مهارة الكاتب إلا أنني أرى الآتي :
(1) طول السرد بلا مبررات فنية خاصة في المنقلبين الأول والثاني.
(2) وجود بعض الزيادات في بعض المشاهد الروائية خاصة صـ43 من السطر السادس حتى التاسع فيمكن حذف هذه السطور . أيضاً صـ 67 من السطر الثامن إلى السادس عشر أرى حذفهم ومع ذلك قدم الكاتب رواية شديدة الخصوصية من حيث أسلوب المعالجة والطرح واللغة وثقافة الكاتب ومقدرته اللغوية.
تمت في يوم 12/1/2010 القاهرة
رمضان أحمد عبدالله
26511746 / 02
0106249810