الغريبة وخليل شيبوب
بقلم/ ناصر صلاح
سألني احد الأصدقاء كيف تدرك أن نصا ما نتاج تجربة صادقه أو أنه نتاج معايشة لتجربة غيره؟ فقلت له ببساطة شديدة إذا وجدت نفسك تعود الى قراءة نص ما عدة مرات فاعلم أنه مس داخلك وترا ومادام مس داخلك فهو بالتأكيد نتاج تجربه صادقه أصيلة.
نعم والتجربة قد تكون لحظة يحسن الشاعر القبض عليها أو بمعنى أصح تحسن اللحظة والتجربة حبس الشاعر داخلهما وتعصراه عصرا ليخرج رحيقه وعبيره.
ودائما ما كنت أقف أمام نصوص من هذه النوعية أرتشف منها المتعة وأتيه بشذاها ومن هذه النصوص قصيدة الرائع خليل شيبوب " الغريبة" هذا اسمها وهذا أيضا سمتها وهذه قصتها وخاتمتها الرائعة ، التى تدل على عبقرية شاعر رغم شهرته فى وقته إلا أن كثيرا من أبناء جيلى لا يعرفونه جيدا ، وسيرته الذاتيه طويلة ومعقده أتدرون أن تاريخ ميلاده مختلف باختلاف المصادر لكن من المؤكد أنه ولد فى اللاذقية قبل عام 1895 وأنه ارثوذكسى وجاء الى الاسكندريه بعد سن 16 عام ولو تركت القلم للحديث عن الشاعر ومعاناته لما كتبت شيئا عن نصه الجميل فتعالوا نستمتع بالنص.
هو لحظة لكن الشاعر جعل منها قضية وجعل من القضية وجعا خاصا إستعرض من خلاله مشاعر متناقضة رغم تشابهها فى الناتج النهائي، لحظة ربما تمر بنا عشرات المرات قد ينتبه البعض لها وقد يهملها البعض الأخر، قد تؤثر فى مشاعر البعض فينساب تعبيرا وقد تمر مرور الكرام على البعض الأخر، ما هي تلك اللحظة ؟ هى أن تفاجأ بعيون تداعبك من بعيد، ماذا سيكون رد فعلك؟ تعالوا نعيش اللحظه والتجربه مع خليل شيبوب:
مكحولة العينين ذات لمى .. أحوى وثغر رائق الشنب
البدر يطلع من ترائبها .. والشمس صفحة خدها الذهبى
ويزين لبتها بجوهره .. نوط كنظم السبعة الشهب
فكأن نور الدر زاد سنا .. وجه بنور الحسن منتقب
وكأن زنديها بياضهما .. عاج زها فى قالب عجب
هكذا بدأ خليل شيبوب يقدم اوصافا لا يستطيع أحد أن يقف امامها الا وهو مسحور ومشدود فى انتظار الأتى بعد ذلك ، إنه يقدم تقريرا عن جسم الجريمة الجميلة إن جاز لنا التعبير، ولن أقف عند هذا الوصف الذى استمد بعض مفرداته من ثقافته التى تربى عليها فى الشعر العربى القديم لكن فقط أشير الى صورته الجميلة التي هزتني ومازالت فى مخيلتي أدهش وأبش لها قوله ( وجه بنور الحسن منتقب).
ولنبدأ فى استجواب شيبوب لمن تلك المواصفات وما قصتها معك :
جلست الى رجل يحدثها .. فى محفل مجموعه لجب
يصغى اليها وهو منهمك .. معها ببعض الأكل والشرب
وجلست فى سهوى حيالهما .. لاهى النواظر غير مرتقب
متفرد بين الجموع بما .. عندى من الحسرات والكرب
بدأ شيبوب يدخل إلى مسرح الأحداث بدأ يمر بكاميرا المشاعر ليلتقط لنا لحظة التجربه ويضع يده بسهولة على جراحه ويصف حاله ببساطة شديده دون اطالة مملة ويمنى نفسه ويلوم غريمه لكن ماذا بعد يا شيبوب:
لكنها أخذت تخالسنى .. نظراتها عمدا بلا سبب
فتدير نحوى الوجه فى لهف ..وتدير عنى الوجه فى أدب
تصغي له وتكاد تبسم لى .. فى جرأة طورا وفى رهب
وتمد ألحاظا قد اخترقت .. بالسحر ما فى القلب من حجب
" هى راودتني عن نفسى" لكن شيبوب لم يستعصم لقد كان يمنى النفس أن يكون مكان المشغول عن ساحرته بالشراب والطعام وفجأة وهو فى هذا التمنى يجدها تشاغله وتداعبه بنظراتها، تأملوا دقة شيبوب فى ( نحوى وعنى وفى لهف وأدب وفى له ولى وفى جرأة ورهب ) إنه يجيد تلألأ التضاد، لقد فعلت بقلبه فعل السحر، وماذا بعد يا شيبوب فى هذه المطارده الغريبه:
ماذا تريد ولست أعرفها .. حتى اسلم وهو لم يجب
إن الذى جلست تحدثه .. يبدو محبا والمحب أبى
تجنى عليه إذ تخالسنى .. نظراتها فأراه وهو غبى
فعلام تدنيه لتبعده .. وعلام ترضيه على غضب
وعلام تغرينى وما عرفت أصلى ولا فصلى ولا حسبى
ما راقنى أن يستباح لها .. حلمى وأن يلهى ويعبث بى
بدأت مشاعر الشاعر تستجيب لنداء العيون وسحرها ، بدأت الأسئلة داخله وبدأ يحلم لو قام وسائلها بنفسه وسلم عليها، لكن ماذا عن الجالس معها والتى تظلمه وتخدعه ؟ ولما تجالسه وهى تنظر لغيره ؟ ولماذا انا بالذات وبرغم سعادته الا أنه قلق أن يترك نفسه للحظه وأن يستسلم لسحرها وعينيها بحلمه وأمنيته، ومازال شيبوب يلعب بتضاده الساحر ليمتعنا:
لكنها بقيت تخالسنى .. نظراتها وتجد فى لعبى
وصديقها عن ذاك فى شغل .. يصغى لما فى الحقل من صغب
فشعرت أنى قد فقدت هدى .. نفسى وأنى جد متضطرب
وتزيد فى غزلى ومشغلتى .. سيان فى صدق وفى كذب
حتى تركت لها المكان ومن .. فيه ورحت ولم أرح تعبى
أرأيتم وقائع الصراع المرئي والمحسوس ، أرأيتم رغبة الشاعر ومتعته وحزنه على غريمه الغافل وخوفه على قلبه الذى ذاب والذى اصبح لا يهمه أهى صادقة الاحساس ام كاذبة ، وما الحل ؟ الانسحاب السريع وهو مجروح ينسحب وهو مشتاق للإستمرار فى حلبة الصراع رغم ما يعانيه ولذا كان ختام البيت أفضل تعبير عن حالته ( ورحت ولم أرح تعبي).
هل انتهى الأمر بالانسحاب لا ، ربما انتهى المشهد لكن ما اصعب اثاره ونواتجه ، فقد بدأ الشاعر يراجع شريط اللحظة الممتع فى حوار مع النفس اللاومه والحائرة والمتعبه معا:
يا بنت سامحك الإله على .. ما هجت فى صدرى من اللهب
أيقظتى فى قلبى لواعجه .. ودعوته عرضا فلم يجب
عجبا لصبر القلب عنك ولى .. قلب على حب الجمال ربى
حواء ما انتسبت لأدم فى عدن .. بغير الحسن من نسب
فأقره دون الخلود لنا .. وكذا ورثناه على الحقب
ما كنت أجهل ناظريه وقد .. منا الى بكل ما سبب
لكن تعارضت الطريق بنا .. حتى تباعد كل مقترب
فإذا الحياة مضلة وإذا .. معنى الخيانة جد منقلب
أرأيتم ماذا بداخل شيبوب وفلسفته ومنطقه راجعوا علاقة حواء بأدم فى الابيات، أرأيتم كيف تحامل على نفسه وكيف تألم أيضا لهذا التحامل، تعالوا نرى إلى أى مدى كان صبره:
كم عدت مرتقبا هناك وكم .. حاولت لقياها ولم أصب
فى طفرة عفو الحياة أتت .. منهوبة لشقاء منتهب
بل نظرة كالبرق قد ومضت .. أب الدجى والبرق لم يؤب
يا من جهلت ومن عرفت ومن .. ودت تفرج هم مكتئب
ذنبى مراعاة الحقوق وإن .. هى أوردتنى مورد العطب
وأمانة للناس توجبنى .. إغفال حق غير مكتسب
لكن حسنك أنت ربته .. والحسن فوق العرض والطلب
خالفته جهلا فأوقفنى .. فى العمر بين الويل والحرب
هكذا مازال الصراع الداخلي مازال الشوق الذى فجرته الساحرة ونفس الشاعر الأبية التى تحفظ الحقوق ولا تحب الخيانة والخداع ، الصراع ما بين الحلم والتمنى بين الأمانة والنبل وكلاهما مر.
إن كنت غبت الدهر عن نظرى .. فجمال ذاك الوجه لم يغب
وأظل اذكر ناظريك وما .. غزلاه من سحر ومن عجب
والكحل فى عينيك مبتسما .. والثغر احوى رائق الشنب
والنوط والدر النظيم به .. والمعصمين وخدك الذهبى
فيقيم أشجانى ويقعدها .. يوم لقيتك فيه عن كثب
إنى تعذبنى وتسلينى .. رشدى فرشدى أى مستلب
ذكرى فتاة حاولت صلة .. بفتى فخاب بها ولم تخب
جهل لعمرك لا يسوغه .. دفع الخيانة عن أذل غبى
هذى الغريبة ربما شعرت .. فى العمر أنى جد مغترب
من أمتع مقاطع القصيدة وهذه النهاية التى قد يرى البعض أن لا قيمة لها حيث يعيد من خلالها مدخله الوصفى الى القصيدة ، لكن تلك الاعادة تؤكد أن التجربه عميقه وأثارها قوية ومشاعره صادقه وأن الصراع العاطفى والنخوة لديه مازال قائم حتى بعد انتهاء المشهد، لكنه أنهى القصيدة ببيت أراه بداية لقصيدة أخرى أكثر وجعا، بيت التمس فيه العذر بعد أن اتهمها باستغباء وخيانة غريمه، بيت تلمس فيه جراحه وكأنه أراد أن يكف عن جلدهما معا فقال ( هذى الغريبة ربما شعرت فى العمر أنى جد مغترب).