ناقد منسيّ في عبقرية أمراضه

ناقد منسيّ في عبقرية أمراضه

أحمد الواصل

العدد 44 - تشرين الثاني 2011
[rtl]
إذا كان النقد العربي قد توزَّع بين النظرية البلاغية من جهة والنظرية الأدبية من جهة أخرى، فإن النظرية الأولى خلقت لنا مؤرّخي الأدب

والحادثة التاريخية، ومفسّريه وشارحيه، ومحلّلي الأجناس الأدبية، ومستوردي المناهج الجاهزة، بينما دفعت النظرية الثانية إلى منطق اللغة

والمعنى بأن النتيجة لا تسبق السبب، فاعتنى أصحابها بالعملية الإبداعية، كون معظمهم مبدعين ومبدعات، فاقترحوا اتجاهاتهم وخياراتهم بناء

على وعيهم الفردي ورؤاهم. ولعل نشأة النقد الذي عاصر أدب النهضة غائمة إلا من بعض الأسماء المكرّسة لأسباب أكاديمية، وأسباب فرضتها

الحاجة الإعلامية في المحافل الثقافية المختلفة. ويُعتبر حسين المرصفي (1915 - 1890) أول ناقد عاصرَ أدب النهضة، بل وفتح الباب

على مصراعَيه لأبي الشعر النهضوي محمود سامي البارودي، حيث وضع كتاب «الوسيلة الأدبية» (1878) الذي درس فيه شعر البارودي

ونثر عبد الله فكري. وهذا التكريس لأهمية البارودي هو ما دفع الشعراء اللاحقين أمثال إسماعيل صبري وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم إلى

استعادة (واستلهام) ذروة النماذج الشعرية الممثّلة في أبي نؤاس والشريف الرضي وأبي فراس الحمداني.[/rtl]
[rtl]
ويمكن أن يُحسب للنقد بداياته التجديدية، حيث واكب التجديد الشعري. فقدَّم عبد الرحمن شكري (1886 - 1958) كتابه النقدي «الثمرات»

(1915) بالإضافة إلى مقدّمات دواوينه منذ أولها «ضوء الفجر» (1909). ولحق به من النقاد إبراهيم المازني (1890 - 1949)

الذي أصدر كتيّباً صغيراً بمثابة البيان النقدي الأول له بعنوان «الشعر: غاياته ووسائله» (1915)، قبل أن يُنجز مع زميله عباس محمود

العقاد (1889 - 1964) كتابهما النقدي «الديوان» (1921) الذي انتقدا فيه أعمال أدبية لأحمد شوقي ومصطفى المنفلوطي وعبد الرحمن شكري.[/rtl]
[rtl]
وهذا الكتاب ألهم ميخائيل نعيمة (1889 - 1988) أن يجمع مقالاته في كتاب، وضع مقدّمته العقاد نفسه، وصدر بعنوان «الغربال»

(1923). وهذا ما دفع أيضاً محمد حسن عواد (1902 - 1980) إلى إصدار كتابه النقدي الأول «خواطر مصرحة» (1924).[/rtl]
[rtl]
وقدَّم محمد حسين هيكل (1888 - 1956) كتابه «ثورة الأدب» (1925) دارساً الشعر والقصة، وجمع يحيى حقي (1905 - 1987

) مقالات ودراسات نقدية كثيرة كتبها بين عامَي 1927 و1960 في كتاب أسماه «خطوات في النقد» (1961). أما محمد مندور (1907

- 1965) فقد كرَّس مساره الثقافي ناقداً منذ البداية، من خلال كتابَيه «نماذج بشرية» (1941) و«في الميزان الجديد» (1944).[/rtl]
[rtl] [/rtl]
[rtl]الفيزيائي والناقد[/rtl]
[rtl]
ومن خلال ما سبق يكون تاريخ النقد العربي بنى صورته الأولى، غير أنها ستكون ناقصة إذا لم نُضِف إليها ناقداً متمصِّراً من أصل تركي -

ألماني أسهم في أكثر من مجال فيزيائي وتاريخي وفكري عبر بحوثه ودراساته وكتبه، وهو إسماعيل أدهم (1911 - 1940) الذي ذاع

بعد نشر كتابه «من مصادر التاريخ الإسلامي» (1936)، وهو جزء من كتاب أعدَّه للنشر بعنوان «حياة محمد ونشأة الإسلام»، ومقالته

«لماذا أنا ملحد» (1937) التي بسببها أقفلت مجلة «الإمام» التي نشرتها.[/rtl]
[rtl]

أذكر هنا أنه بعد نشر فصل واحد فقط من كتابه المذكور، قام الأزهر بمطالبة الحكومة - ممثلةً بمجلس الوزراء - أن يصادره، ويحيل مؤلفه

على التحقيق الذي ما لبث أن حُفِظَ لكونه ليس مصريَّ الجنسية، على عكس ما حدث لكل من منصور فهمي (أحوال المرأة في الإسلام، 1913

) وطه حسين (في الشعر الجاهلي، 1927) وعلي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم، 1925) وعبد الله القصيمي (البروق النجدية في

اكتساح الظلمات الدجوية، 1931)، حيث انتكهت حقوقهم بشكل معتسّف من إحالة على التحقيق والإيقاف أو الفصل من العمل أو الدراسة، ناهيك عن التشنيع الإعلامي المنظَّم.[/rtl]

ولا يُستغرب أن يكون يوسف الدجوي، أحد منتسبي الأزهر، هو مَن قاد هذه الحملات المسعورة ضد ّكل هؤلاء، فلعلنا لا ننسى في عصرنا من

كان وراء قتل فرج فودة وطعن نجيب محفوظ وتفريق نصر حامد أبو زيد عن زوجته وتهديد نوال السعداوي وسيد القمني بالقتل.
[rtl]
غير أن شخصية العالم الفيزيائي والباحث التاريخي في الأديان غيَّبت شخصية الناقد الأدبي لإسماعيل أدهم. وحين كُلِّف من كلية الآداب التركية

التابعة لجامعة إسطنبول لدراسة التاريخ الإسلامي والأدب العربي بين عامَي 1936 – 1940، نشط في دراسة الثقافة العربية مطلع القرن

العشرين واختار مجموعة من المثقفين وأعمالهم الأدبية والفكرية، وهم: إسماعيل مظهر وتوفيق الحكيم وطه حسين ويعقوب صروف. كذلك

اهتم بدراسة الشعراء: خليل مطران وجميل صدقي الزهاوي وأحمد زكي أبو شادي وميخائيل نعيمة (دراسة غير مكتملة نُشرت بعد وفاته)

بالإضافة إلى الشاعر التركي عبد الحق حامد (كتيّب نشر بعد وفاته أيضاً). وهو في هذه الدراسات حقَّق ما تجاوز المناهج النقدية التفسيرية

والتقييمية والأيديولوجية التي وُضعت من قبل النقاد السابقين، معتمداً على المنهج التاريخي والنفسي والاجتماعي في صورة دراسات ثقافية.

وفي الحقيقة قدَّمت لنا هذه الدراسات النقدية ناقداً كبيراً ظلمه تسليط الضوء على مجال واحد من مجالات اهتمامه العلمية والفكرية، حيث أوقفت

شهرته على فصل نُشر من كتاب، ومقالة كتبها جواباً عن محاضرة صديق أحمد زكي أبو شادي حول الإيمان والإلحاد.

وما يدعو إلى الإعجاب معرفتنا أن الإنتاج العلمي والتاريخي والنقدي لأدهم لم يكن سوى بين عامَي 1933 - 1940، وأنه متنوّع بين

الفيزياء والتاريخ والأدب وغزير، هذا غير ترجماته ومراجعاته والمخطوطات التي كان يعدُّها بالعربية والألمانية والإنكليزية.

المنهج التحليلي التاريخي والنفسي

بعد قراءة دراسات إسماعيل أدهم يمكننا تسجيل الملاحظات الآتية: اعتماد المنهج التحليلي التاريخي والنفسي والاجتماعي، اعتماد المنهج

المقارن بين الأدب العربي والأوروبي، الوعي بمكوّنات الحضارة والروح العربيَّين، الموقف الشعوبي أو التعالي على الآخر، الصدام بين المنطق الرياضي والإبداعي.

وهو من خلال دراسته خصائص الأدب العربي، رصدَ أنه أدب ذاتي، وتجريدي، ولفظي. ورأى أن ما اصطُلح على تسميته «أدب النهضة»

أو «الإحياء» هو «إخصاب بعد جدب»، بسبب القطيعة بين عصور الأدب العربي من بعد نهاية العصر العباسي إثر توالي عصور الأعاجم،

من المملوكي والأيوبي والمغولي والعثماني. غير أن «قوة الفكر الفردي» كانت وراء نشوء المدرسة الرومنتيكية في الأدب.

وقد قال أدهم بوجود مدرستَين: قديمة تمثّلها استعادة العصر العباسي لدى محمود سامي البارودي وإسماعيل صبري وأحمد شوقي وحافظ إ

براهيم، وأخرى جديدة ترجع إلى الأدب الأوروبي ويمثّلها خليل مطران وعبد الرحمن شكري وأحمد زكي أبو شادي، وقد وضع عن صديقه أبو

شادي الشاعر وعالم النحل والصحافي دراسةً نُشرت عام 1936، تكشف عن انتصاره للنزعة الفردية والمنطق العلمي اللذين كانا وراء

الاتجاه التجديدي، بينما أنكر أبو شادي مقولاته النقدية باعتبار أن التجديد هو سمة الإنسان المتحضِّر، كما أن اللغة تنقل معارفَ مختلفةً ليس

بالضرورة معارف أهل اللغة ذاتها. وقد قال أدهم عن شعر أبو شادي بأنه يمثِّل ثلاثة أنماط: الشعر التصويري والوصفي، والعاطفي،

والقصصي. غير أنه انتهى إلى القول إن أبو شادي يعجبه ناثراً لا ناظماً.

كما رأى إسماعيل أدهم أن التطوّر السياسي في العراق دفع بالتطوّر الاجتماعي والثقافي، على عكس الوضع في لبنان ومصر. وفي دراسته

عن الشاعر جميل صدقي الزهاوي (نُشرت في كتيّب صدر لدى مجلة «الإمام» عام 1937) رأى أن الزهاوي صاحب منطق علمي في

كتابَيه «الكائنات» (1896) و«تعليل الجاذبية» (1908)، وهو آمن بنظرية التطوّر ما جعله يمثّل الداروينية العربية التي أسَّسها شبلي

الشميل، وهذا ما دفعه إلى مبدأ التساوي بين الجنسَين، ومطالبته بتحرُّر المرأة، ورحلته الفكرية من الشك إلى التصوّف في أشعاره. وقد ركَّز

أدهم على دراسة ملحمته الشعرية «ثورة الجحيم» (1929) وقارنها بـ«رسالة الغفران» للمعرّي، وأعمال الشاعر التركي عبد الحق حامد في دواوينه: «مقبر»، «بالادن برسس»، «أولو»، وفيكتور هيغو في ديوانَيه «نزعات الشيطان» و«الله».

وفي دراسته عن خليل مطران، والتي نُشرت بواقع 13 حلقة في مجلة «المقتطف» (1939 - 1940)، رأى في مطران شاعراً ثائراً على المدرسة الإتباعية بوضعه أسس المدرسة الإبداعية، وهي ثورة المضمون لا الشكل. وهذا ما دفع مطران إلى تكريس الشعر التصويري

والقصصي. ومن خلال دراسة نفسية لشخصيته رأى أدهم أنه شخص لم يحمل عقداً من فترة الطفولة، ما ألهم شخصيته ضبط النفس. وقد

من خلال هذه الحلقات ترجمات مطران لشكسبير وراسين وكوريل، وصناعته الفنية، ووظيفة الخيال في شعره، وتعامله مع البحور الشعرية، ورأى فيه «مثالاً عالياً لمنحى متميّز في الأدب العربي الحديث».

مراهقة ميخائيل نعيمة وكبته الجنسي

وأما دراسته عن ميخائيل نعيمة (نُشرت غير مكتملة في مجلة «الحديث» سنة 1944) بوصفه ناقداً وقاصاً ومترجماً ومفكراً، فقد جعلته يرصد

في شخصيته حالة الاضطراب جراء الكبت الجنسي بسبب تربيته الريفية المحافظة التي انتقلت به إلى مبدأ وحدة المتناقضات، واحتفاظه بروح

المراهق رغم كبره. واستطاع أن يخلط بين أكثر من معتقد مسيحي أرثوذكسي وإسلامي صوفي وبوذي ليكوِّن مساره الفكري وينتج إبداعياً

بشكل متنوّع بين الشعر والقصة والمسرح والكتابة التأمّلية، غير أنه ظل يمثّل تياراً موازياً للتيار الرئيسي في إبداع أعضاء «الرابطة القلمية»

الذي يمثّله بشكل مطلق جبران خليل جبران. وقد درس من آثاره: «الغربال» (1923)، «مذكّرات الأرقش» (1921)، «كان ياما كان»

(1932)، ورأى فيه ناقداً يراوح بين النقد الذاتي والموضوعي، وكشفت قصصه عن روح تبحث عن الطمأنينة ولا تجدها.

وفي المنتهى تكشف لنا هذه الدراسات، بالإضافة إلى دراساته الأخرى عن المفكر إسماعيل مظهر والناقد طه حسين (نُشرتا في مجلة

«الحديث» سنة 1938)، والمسرحي يعقوب صروف (نُشرت في مجلة «المقتطف» سنة 1938)، وتوفيق الحكيم (نُشرت بعدما أكملها

إبراهيم ناجي إثر وفاة أدهم في مجلة «الحديث» سنة 1945)، عن باحث تاريخي وناقد أدبي يحمل ذوقاً جمالياً وذهنية علمية ونزعات تعالٍ

حضارية وجموحاً يسابق الزمن... غير أن أمراضه ستودي به إلى الانتحار.

إسماعيل أدهم ناقد ولد كبيراً وانتحر عبقرياً، وتحوّل إلى مجموعة من الأعمال الكاملة، صدرت بما يقارب الألفي صفحة بالعربية لدى «دار

المعارف» (1984 - 1986)، غير ألف أخرى بالتركية والألمانية والإنكليزية والروسية، بعضها مطبوع وأكثرها مخطوط. كل هذا كان في أقلّ من عقد من الزمن.

- See more at: http://www.alghawoon.com/mag/art.php?id=1126#sthash.UnTPrA9N.dpuf
[/rtl]

» حكاية ناقد غريب