قصة قصيرة بقلم أنور السادات !
مثلما كانت خطبه ذات نغمة مؤثرة تهز المشاعر والوجدان ، فقد كانت كتاباته أيضا جذابة وممتعة وكان يتمتع بمهارة أدبية ..ولن نبالغ إذا قلنا أنه إذا لم يكن رئيسا للجمهورية لأصبح أديبا أو كاتبا سياسيا كبيراً .
قصة قصيرة بقلم أنور السادات !
قصة قصيرة بقلم أنور السادات !
هو الرئيس الراحل أنور السادات والذى عثرنا بالصدفة على قصة قصيرة كان قد كتبها عام 1954 فدفعنا الفضول لاقتحام عالم السادات المبدع والأديب والكاتب .
الموضوع الأصلى من هنا: عالم الرومانسية
http://www.cindbad.com/vb/showthread.php?t=14197القصة تم نشرها عام 1954 فى مجلة المصور .. وكانت تدور أحداثها فى إحدى القرى الريفية الفقيرة حول فلاح أجير أسمه "خضر" يعمل فى أرض تملكها إمرأة جميلة غنية تسمى "نورا" وقد سعت لاستدراجه فى إحدى الليالى وواعدته ثم كان اللقاء وكاد الشيطان أن يغرر به لولا سقوط سلسة نورا وكان مكتوبا عليه لفظ الجلالة الله مما كان سببا فى عودته لرشده ، وهنا يبدو السادات متأثرا جدا بنشأته الريفية وقد استطاع بقلمه أن ينقل لنا الحياة فى القرية بكامل تفاصيلها ، القصة عنوانها " ليلة خسرها الشيطان " وفيما يلى نصها :
(( أخذ قرص الشمس يهبط رويدا رويدا ، فتناثرت من تحته ظلال رمادية راحت تغمر سماء القرية "العابدية" معلنة غروبا جديدا وهذه سنة الله ... فلا بد أن يسير الكون مابين شروق وغروب ونور وظلام نحو النهاية التى أرادها له خالقه القادر القوى الرحمن...
قصة قصيرة بقلم أنور السادات !
وموكب الغروب فى القرية مهرجان رائع يتكرر كل يوم فبينما تزدحم الطرق الزراعية بجمع العائدين من كفاح اليوم الطويل فى الأرض الطيبة رجالا وعددا وماشية وأنعاما .. نرى القرية وقد اكتست بدخان داكن يتعالى فى هدوء السماء فوجبة الطعام الرئيسية لا بد أن تكون فى استقبال الرواد العائدين ، شهية بقدر ما عانوا وبقدر ما يسمح به دخل البيت ومهارة سيدته شريكة الكفاح ...
وحالما ينتهى الزحام على الطرقات يبدأ زحام من لون جديد على المساقى والطلمبات ، فإن أحدا من هؤلاء الرواد لن يأوى إلى عشه من غير أن يطمئن إلى سقاية ماشيته وأنعامه ... وفى هذا اليوم وقف (خضر) من خلف سور ذلك القصر الأنيق يرقب كعادته موكب السقاية من ذلك الحوض الكبير الذى أقامته سيدته صاحبة الأرض والجاه والثراء ، وريثة ذلك القصر وربة ذلك الحسن الذى يصرخ من ضحكاتها الحلوة العابثة فتنة وإلتهابا ..
إن (خضرا) اليوم فى دوامة تأخذ عليه عقله وقلبه وحسه وكل حياته .. فهو يذكر أول يوم عندما نزح إلى القرية لكى يعمل مع الأجراء من عمال الأرض فالتقته (نورا) من بين عشرات النازحين واختارته لكى يشرف على حديقتها الخاصة الملحقة بالقصر بأجر مغر قدره خمسة جنيهات كاملة .
وهو يذكر أيضا أنها لم تسأله عن سابق علمه بالعمل فى الحدائق ، وإنما سألته عن نفسه وسماته التى وصفتها بأنها تدل على النبل وعن قوامه الذى أعجبها أيما إعجاب وعن ... وعن .. ولما أن ارتدت عيناه خجلا وأحمر وجهه وأراد أن يجيب لم يجد إلا تمتة وهمهمة ردت عليها نورا بتلك الضحكة الحلوة العابثة وهى تربت على كتفيه وكأنما سعدت بذلك الخجل وتلك التمتمة ....
قصة قصيرة بقلم أنور السادات !
وهو يذكر أيضا أنها لم تكتف بذلك وإنما أخذته من يده وقادته إلى الحجرة المخصصة له فى طرف الحديقة وأرشدته إلى ما فيها من امتيازات لم يألفها بل ولم تداعب خياله قط وهوالذى لم يعرف إلا تلك الدار المتواضعة التى نزح منها ... وكأنما أرادت أن تذهب ما بقى بلبه من رشاد فأمرت الخدم بإعادة تنظيفها وترتيبها من جديد ..
"عشانك يا خضر ...."
لقد أمعنت نورا فى العبث بفطرة ذلك الفتى الساذج إلى حد أذهلته عن أمسه وحاضره وكيانه فى مستقبل الأيام إنه ليسأل نفسه وهو يقبض بيديه على حديد السور يرقب موكب السقاية ألف سؤال وسؤال ... لماذا تناديه (نورا) فى مناسبة وفى غير مناسبة لتروى له طرفا من حياتها فى المدينة وكيف أن الكثيرين من أهل الثراء يتوددون إليها طامعين فى مالها وجمالها وفى مجالسها وكيف أنها تضن بقلبها أن يعبث به الطامعون وأنها لن تسلم قلبها وأموالها إلا لمن تشعر أنه يريدها لشخصها حتى ولو كان أحد عمال أرضها الأجراء ....
وذلك الذى حدث يوم أن كان يقلم أشجار الورد فى الحديقة ولم يكن له بهذا الفن سابق علم فكان أن نفذت شوكة طويلة فى راحة يده وتصادف أن (نورا) كانت تمر بالقرب منه فهالها أن ترى الدماء تنزف منه وأخذته مسرعة إلى جناحها الخاص حيث أجرت له الضمادات وكانت ذراعه عارية إلا من قميص مهلهل فأخذته (نورا) بعد أن أسعفته تمسح بيديها على عضلاته وفى عينيها بريق عجيب لم يكن ليراه طيلة حياته فقد عودته النسوة فى القرية ألا يرى بريق عيونهن من فرط الخجل أو من فرط استحيائهن ..
لقد لمست بيديها بلطف أول الأمر ثم بعنف وهى تقترب منه لتغسل له الجرح فأدمت طهارته وروحه بتلك الأنفاس الحارة التى انبعثت منها مختلطة بذلك العطر القوى الذى شل من فتانا كل حراك وعندما قام لينصرف وهو يشكر لها صنيعها فى كلمات لاهثة منقطعة ويقبل يدها ما راعه إلا أن همست فى أذنه بصوت حالم انبطح بعنف على وجدانه البرىء : انتظرنى يوم الخميس الجاى ياخضر .. سأرجع من مصر علشانك مخصوص .
هل كان وهمه يطلب صراحة أكثر من هذا ؟ وهل كان شيطان الشك يريد منها وعدا أفضل من هذا ؟ لا لم يعد هنا وهم ولا شك وإنما يقين يهز كيانه بأقوى مما يفعل الشك ، قد عاش يومين بعد هذا اللقاء محموما مخدرا فى حلم اشتهى ألا يفيق منه كان يذكر اللقاء ليسترجعه وليردد قولها كلمة كلمة إن نبرات صوتها لا تزال تعيش فى أذنيه واضحة شجية تطارده وهو ينام وتنسه وهو يعمل فى خدمة حديقتها التى ينقض عليه فيها شهر بعد .
أيتها المشاعر البشرية بل أيتها العواطف الإنسانية لقد كان فكره فى أيامه الأولى يدور حول الجنيهات الخمسة التى طالما منى نفسه بأنه سيتناولها متماسكة فى ورقة واحدة كان يراها فى أيدى تجار القطن وكانت أنامله تأكله ليملس عليها ويرفعها فى احترام إلى شفتيه ليقبلها فى لهف .. كم من ساعات انصرمت عليه وهو يحرك هذه الأنامل وكأنما تمر على صفحة تلك الورقة العريضة التى شاعت فيها الحمرة كما تشيع فى وجنتى سيدته الرشيقة الباسمة دائما ... كان فكره يدور حول الجنيهات الخمسة فى سذاجة وبراءة ولكنه أصبح اليوم ولا هم له أو لفكره ولا لخياله سوى سيدته نفسها .. سيدته وسيدته فى الحل ..إن هواتف نفسه تتصارع بين رغبة جامحة طارئة وبين ما نشأت عليه فطرته الساذجة من اعتراف بالجميل ولكنها سيدته أيضا إنها هى التى شجعته فتشجعت غرائزه وهى التى كشفت بعطرها وأنفاسها عما كان يكتبه
إن (خضرا ) يعانى صراعا لم يكن فى حسبانه بين ماحرم الله فى كتابه وما أيقظته فيه سيدته من هواتف ..
ظل خضر فى موقفه هذا على السور تائها شاردا ولم يحس أن القوم قد انصرفوا بأنعامهم عن الحوض الكبير وأن الليل قد زحف على القرية ولم يدر إلا والرجفة تأـخذه .. إن اليوم هو الخميس الذى واعدته عليه سيدته فلا بد أن يذهب ليعد نفسه للقاءها
وفى خطوات وئيدة توجه ( خضر ) إلى طرف الحديقة حيث يوجد مسكنه وما أن فتح غرفته حتى وقف كالمصعوق لقد وجد (نورا) فى غلالة شفافة تلف جسمها وهى تفضحه .... وراعته المفاجأة فتسمر فى مكانه و(نورا) تناديه : نادته بصوتها الذى سحره ونادته بضحكها الذى أذهله ونادته بذلك البريق الذى رآه فى عينيها وهى تضمد جراحه .. ولكن (خضرا) ظل فى فى مكانه
وعصفت الرغبة ب (نورا) فأرسلت ضحكة عالية لم تكن كضحكاتها السابقة وإنما كان فيها صراخ الشيطان وألقت بجسدها بين أحضانه ... وصرخ الوحش فى دماء (خضر) فلم يشعر إلا وهو يتلقف ذلك العود الفائر الدافىء بين ساعديه وأطبقهما فى عنف وكأنما يريد أن يعتصر كل ما فى العود .. وصرخت (نورا) من الألم . فارتد خضر فى ذهول ليرى على الأرض حلية سقطت من صدر (نورا) بعد أن أدمته ..
ووسط ذلك الليل البهيم انشق الهدوء والسلام فى طرقات القرية على صيحات (خضر) المذعورة وفى يده شىء يطبق عليه ... كان كتاب الله فى حلية من ذهب !!